محمد الحمامصي يكتب:
الشعر صوت الحرية في مواجهة آلات القمع
كان لحركة جيل البيت الأدبية الأميركية التي انطلقت من سان فرانسيسكو عام 1955 الأثر العميق في الثقافة الأميركية، حيث تأسست انطلاقا من الدفاع عن الحريات الشخصية والرفض الحاد للنزعة العسكرية والمادية والقمع الجنسي، وقد لجأ كتّابها وشعراؤها إلى استخدام لغة الشارع في كتاباتهم، متطرقين إلى موضوعات من خارج المانيفستو الأدبي الرسمي، وقد قام الشاعر والمترجم والباحث في الدراسات المقارنة الحبيب الواعي بترجمة نماذج من نصوص 25 شاعرا أميركيا كانوا أعضاء في الحركة، وقد قدّم لهذه الأنطولوجيا بمقدمة حول الحركة ولقاءاته مع معاصري الحركة ودارسيها والمنتمين إليها، ولم يفُتْهُ أن يعرّف بالشعراء وأعمالهم في ملحق خاص ضمّته الأنطولوجيا التي صدرت أخيرا عن مؤسسة أروقة للنشر تحت عنوان “أميركا أميركا.. أنطولوجيا شعرية لجيل بيت”.
من بين الشعراء الذين ضمّتهم الأنطولوجيا ألن غينسبرغ الذي أسس تيار جيل البيت أو شعراء الإيقاع مع كل من كيرواك وبوروز ومايكل ماكلور وغريغوري كورسو وفيليب ويلن. يعكس شعره قلقه المستمر ودفاعه عن الحريات المدنية والأقليات المضطهدة في جميع أنحاء العالم.
وأيضا جاك كيرواك مؤسسي جيل البيت، ولُقّب في كثير من المناسبات بـ”ملك جيل الإيقاع” بعد نشره لروايته المشهورة “على الطريق” عام 1957. وتدور معظم رواياته حول الروحانية الكاثوليكية وموسيقى الجاز والبوذية والمخدرات والفقر والسفر.
وهناك لورنس فيرلينغيتي الذي ترتكز تجربته الشعرية على التقاليد الغنائية وعلى تقنيات السرد. وديان دي بريما التي يمزج شعرها بين تقنيات الوعي المنساب والانتباه القصدي بشكل يمزج السياسي بالممارسة الروحية. وبوب كوفمان وتتمحور كتاباته حول معاناته أثناء عيشه في نيويورك مع الفقر والإدمان والسجن. كان يتعرض للضرب والمضايقات من قبل شرطة مدينة سان فرانسيسكو. تأثر بالسريالية وموسيقى الجاز التي كان يستوحي منها شعره ويلقيه في المقاهي والشوارع.
يقول الحبيب الواعي “يعود اهتمامي بحركة جيل البيت إلى اطلاعي على كتابات وأشعار ألين غينسبرغ وجاك كيرواك وويليام بوروز ولورنس فيرلينغيتي ومايكل ماكلور وغريغوري كورسو وأميري بركا وديان دي بريما وجوان كايغر، وغاري سنايدر وغيرهم خلال دراستي بالثانوي التأهيلي حيث انشغلت بأسئلة مقلقة لها علاقة بالظروف الاجتماعية المزرية التي نتجت عن وضعية سياسية يحكمها الفساد والتسلط وعدم تكافؤ الفرص، مما دفع بي إلى التفكير في طرق مسالمة لتغيير الوضع أو على الأقل المساهمة في تحسينه عن طريق نشر الوعي بين الأصدقاء وأفراد المجتمع من خلال الكتابة والإبداع.
وهكذا كانت محاولات كتّاب وشعراء جيل البيت أقرب إلى فكرتي عن التغيير وكيفية المساهمة في الرفع من مستوى الوعي لدى أفراد المجتمع نظرا إلى كون هؤلاء الكتاب لم يكتفوا فقط بتخيل عالم تسود فيه قيم المساواة والتعدد والاختلاف من خلال الكتابة بل شاركوا فعليا في التغيير الاجتماعي والثقافي داخل مجتمعهم، وذلك بالانضمام إلى حركات المجتمع المدني والمشاركة في المظاهرات المندّدة بالفساد داخل أميركا وخارجها.
ومما لفت انتباهي إلى هذه الحركة الأدبية والثقافية التي ستتولّد عنها حركة الهيبي في ما بعد هو اهتمام هذه الحركة بالقيم الإنسانية التي نتقاسمها جميعا وحرصها على الدفاع عن حقوق الأقليات على المستوى العالمي، مما نتج عنه تعاطفي اللامشروط مع المواضيع التي يتناولها كتّاب هذه الحركة والتي تخاطب انشغالات جيل من الشباب يتوق إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والتجريب مع جميع أشكال الحياة الإنسانية. وأنا أترجم أشعار كتاب حركة جيل البيت، لفت انتباهي مجموعة من القصائد التي تعكس وعياً ثقافيّاً كونيّاً ميّز الكتابة الشعرية وروح الشعرية الأميركية لفترة ما بعد الحداثة وهو اهتمام يعكس كذلك معاناة روح قلقة تُجاه الظرف الإنساني ليس فحسب في أميركا باعتبارها الدولة الأشدّ تمثيلاً لروح الرأسمالية المتوحشة، بل في البلدان الأخرى التي كبحت الأنظمة السياسية العقيمة عجلةَ تقدُّمها”.
ويضيف “في عام 2014 حدث أن التقيت بآن ولدمان، وهي من أبرز شواعر مدرسة نيويورك وأحد أقرب أصدقاء ألن غينسبرغ، في مؤتمر حضرته حول جيل البيت بمدينة طنجة نظمته الشبكة الأوروبية لدراسات جيل البيت. تحدثنا عن اهتمامي بحركة جيل البيت واشتغالي على ترجمة أشعارهم إلى اللغة العربية وإلقائها مرفوقة بموسيقى الجاز التي يعزفها أفراد فرقتي. أعجبها الأمر كثيرًا واستدعتني للمشاركة في الدروس الصيفية التي يلقيها مجموعة من الكتّاب البارزين بمدرسة جاك كيرواك للشعر بجامعة نروبا بكولورادو.
قضيت بقية السنة استعد للرحلة إلى أميركا وكنت أتواصل مع صديقات وأصدقاء شعراء هناك أخبرهم بزيارتي واستعدادي للقائهم والمشاركة في أي أنشطة ثقافية ينظمونها في ولايتهم. بدأت رحلتي على الطريق من نيويورك، حيث زرت معظم المرافق والمآثر والمتاحف التي ارتبطت بجيل البيت وتاريخه الثقافي، خاصة وكنت أتقاسم إقامتي بين منزل آن والدمان بشارع ماكدوكل ومنزل صديقي الشاعر مايكل بورد بـBleecker Street المشهور بغرينيتش فيلادج حيث كانت بدايات جيل البيت ومعظم فناني الحركة المضادة للثقافة. انتهزت الفرصة كي أسأل والدمان عن تاريخ جيل البيت وعلاقتها بمدرسة نيويورك وجمعها بين الكتابة والالتزام السياسي خلال فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ومما أثار انتباهي هو كون منزل والدمان -الذي تتقاسمه مع المغنية والكاتبةPatti Smith- مفتوحا أمام كل الفنانين الذين يودّون تقاسم أفكارهم، وأتذكر أنه غالبا ما تنظم أمسية فنية وشعرية يحضرها مختلف النشطاء الثقافيين بالمدينة.
خلال الفترة التي قضيتها بنيويورك التقيت بيتر هييل الذي عمل مساعدا لألن غينسبرغ منذ عام 1992، وفي وقت لاحق كأمين لأرشيفه الفوتوغرافي، ثم كوكيل في إدارة إرث ألن غينسبرغ مع بوب روزنتال بعد وفاة ألن. تحدثنا عن غينسبرغ، حياته اليومية، أرشيفه وآخر كتاباته قبل الوفاة، وأمدني بيتر بمجموعة من كتب غينسبرغ التي نشرت بعد موته وقد اعتمدتها في إعداد الأنطولوجيا التي بين أيديكم”. ويوضح الحبيب الواعي “مثل طالب يبحث عن المعرفة من منابعها الأصلية كان لي شرف الالتقاء بالشاعر والمثقف النشيط بوب هولمان الذي استدعاني للمشاركة في نشاط نظمه بنادي بوري للشعر، حيث ألقيت بعض قصائدي وترجماتي لأشعار غينسبرغ بالعربية بينما ألقى هولمان مقابلها بالإنكليزية.. بعد القراءات الشعرية، سألت هولمان عن علاقته بجيل البيت وعن ذكرياته حول شعراء مدرسة نيويورك، ودواعي اهتمامه بالثقافة الشفهية وأهميتها، كما زرت أهم المراكز الثقافية التي كان لها الفضل في بعث الروح في الأدب الأميركي المعاصر حيث تم منح الفرصة لأصوات همشتها وسائل الإعلام الرسمية”.
ويلفت إلى أنه مع إقامته بنيويورك شد الرحال إلى بلدة ايست أورنج، حيث استضافه الشاعر لوي كلي “اقترحت علية زيارة المقبرة التي دفن بها جزء من أرمدة غينسبرغ إلى جانب والديه. قمنا كذلك بزيارة مدينة باترسن، حيت ولد غينسبرغ وترعرع ولم ننس أن نقف على ضفاف شلالات بساييك العظيمة حيث دخن غينسبرغ الماريخوانا سنة 1966.
كما زرنا المقبرة التي دفن بها الشاعر ويليام كارلوس ويليام، أحد الشعراء الذين تأثر بهم غينسبرغ إلى جانب الشاعر والت ويتمان الذي يرقد غير بعيد بمدينة كامدن. من ايست أورنج انطلقنا باتجاه نيووارك بولاية نيوجورسي حيث زرت أمينة بركة، زوجة الشاعر أميري بركة، احد أقطاب حركة السود للفنون. كان الحديث مع أمينة شيقا ولم تكن شحيحة في سردها لأحداث الستينات ومعاناة الزنوج من العنصرية والتمييز. سألتها عن ذكرياتها مع بركة وعن علاقتها بحركة السود للفنون والالتزام السياسي وتصورها للمستقبل في أميركا الألفية الجديدة تم قدمت لها ترجمتي لقصيدة بركة المعنونة بـ’شخص ما فجّر أميركا'”.
ويؤكد الحبيب الواعي أن الفترة التي قضاها بمدرسة جاك كيرواك للشعر شكلت أجمل الذكريات “التقيت بالعديد من الكتّاب والشعراء والموسيقيين وتسلقنا جبال الروكي، كما قضيت بعض الوقت شاعرا زائرًا لمركز شامبالا قرب ريد فيدرز، حيث دفنت بعض أرمدة غينسبرغ إلى جنب بيتر أورلوفسكي سنة 2010.
بعد انتهاء إقامتي بمدرسة جاك كيرواك للشعر سافرت إلى مدينة بورتلاند بولاية أوريغون كي أزور بعد المآثر والجامعات التي درس به بعض أبرز شعراء جيل البيت، خاصة الشاعر فليب ويلن وغاري سنايدر ولو ويلش. خلال ذاك الأسبوع الذي قضيته ببورتلاند قمت بزيارة ريد كاليج حيث درس ويلوش سنايدرو ويلن الذي انتقل بعد إنهاء دراسته للعمل كحارس للغابة بجبال كاسكيد بولاية واشنطن قبل أن يستقر به المقام بسان فرانسيسكو رفقة سنايدر، حيث سيلتقون بكل من فينسبرغ وكيرواك وفليب لامانتيا وكايكل ماكلور.
بعد زيارتي لبورتلاند توجهت إلى ولاية كاليفورنيا، حيث كان لي موعد مع الصديق الشاعر مايكل روتنبرغ مؤسس حركة مئة ألف شاعر من أجل التغيير. كانت تربطني علاقة وطيدة بروتنبرغ لكونه يعتبر من أشد الشعراء المعاصرين نشاطا والتزاما، وقد عرّفني على الكثير من الشعراء الذين تربطهم علاقة بجيل البيت. وقد استضافني مايكل بمنزله ببلدة غيرنفيل الذي تعلمت الكثير منه فهو بمثابة ذاكرة أو موسوعة حية، لم يكن يتوقف عن الحديث عن تاريخ الشعر الأميركي المعاصر وعلاقته بالسياسة والتاريخ الأميركي، ذكرياته مع بعض شعراء البيت الذين التقى بهم، خاصة فليب ويلن الذي اعتنى به ماكيل في آخر أيامه بمركز هيرتفورد وبالمستشفى الذي توفي به. حدثني روتنبرغ عن مميزات شعر ويلن ومدى عمق فكره وعلاقته بشعراء البيت الآخرين. أطلعني مايكل على بعض رسائل ويلن التي تبادلها مع كيرواك وسنايدر وماكلور وأولين، كما أطلعني على الآلة الكاتبة التي استعملها ويلن وقبعته وبعض أرمدته”.