د. صبحي غندور يكتب:
تغيير الواقع الفلسطيني والعربي هو الحل!
توّجت إدارة ترامب مواقفها الداعمة لليمين الإسرائيلي المتطرّف الذي على رأسه نتنياهو بإعلان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عن عدم تناقض بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلّة مع القانون الدولي!. وجاء هذا الموقف الأميركي تبنّياً رسمياً من الخارجية الأميركية لتصريحات سابقة أعلنها السفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان أكثر من مرّة، والتي أشار فيها لأحقّية إسرائيل ببناء المستوطنات في "يهودا والسامرة" وهو المصطلح الإسرائيلي لأراضي الضفة الغربية.
لكن ما الجديد في الأمر إذا كانت إدارة ترامب قد قامت في السنتين الماضيتين بالاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل وبنقل السفارة الأميركية إليها، وبوقف الدعم المالي لمؤسّسة رعاية اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) وللسلطة الفلسطينية، إضافةً للاعتراف بضمّ إسرائيل للجولان السوري المحتل، وهي القضايا التي كانت موضع تفاوض ورعاية من إدارات أميركية سابقة دون حسم الموقف الأميركي منها كما تفعل إدارة ترامب الآن؟.
قضية المستوطنات الإسرائيلية في القدس وفي الضفّة الغربية ترمز إلى أمور كثيرة. فهي تأكيد على حقيقة الموقف الإسرائيلي الرافض لإقامة دولة فلسطينية ولحلّ الدولتين ولأيِّ حلٍّ عادل للصراع العربي/الإسرائيلي، فمن يرفض تجميد بناء (وليس حتّى تفكيك) المستوطنات كيف يمكن أن يقبل بالانسحاب من الأراضي المحتلّة؟!
أيضاً، فإنّ مسألة المستوطنات كانت رمزاً لمدى العجز الأميركي، والاستهتار الإسرائيلي بمن يمدّ إسرائيل بالسلاح والمال والدعم السياسي لعقودٍ طويلة. فإذا كانت الإدارات الأميركية السابقة (ومعها باقي أطراف اللجنة الرباعية المؤلّفة من الاتّحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتّحدة) غير قادرة على إجبار إسرائيل على وقف بناء المستوطنات، كيف ستجبرها إذن على إخلاء الأراضي الفلسطينية المحتلّة وتسهيل بناء الدولة الفلسطينية المستقلّة؟!
ثم أليس التعنّت الإسرائيلي، خلال فترتيْ الرئيس الأميركي السابق أوباما، في رفض وقف بناء المستوطنات دلالة كبيرة على مدى الضعف الدولي والعربي، وعلى عدم وجود تأثير فعلي ضاغط على واشنطن يوازي الضغوطات الإسرائيلية التي تُمارَس على الإدارات الأميركية؟!.
المشكلة هي أولاً في انعدام الموقف الفلسطيني الواحد المترافق أيضاً بانعدام الموقف العربي الواحد. ولعلّ الانقسامات والصراعات العربية هي أفضل دعم حصلت عليه سياسات نتنياهو خلال السنوات العشرة الماضية. فكم هو مهمٌّ الآن أن يتذكّر العرب أنَّ إسرائيل لم تنسحب من سيناء إلا نتيجة حرب أكتوبر عام 1973 واستخدام التنسيق العربي المشترك بأوجهه السياسية والعسكرية والاقتصادية.
وكم هو مهمٌّ أيضاً الآن أن يتذكّر العرب أنَّ إسرائيل لم تنسحب من جنوب لبنان إلا نتيجة المقاومة الوطنية اللبنانية والتضامن اللبناني والإقليمي معها، كما كان فيما بعد دور المقاومة الفلسطينية في إجبار إسرائيل على الانسحاب من قطاع غزّة، بينما لم تؤدِّ اتفاقيات أوسلو وما بعدها إلا لمزيدٍ من العدوان الإسرائيلي والاستهتار بحقوق الشعب الفلسطيني.
إنّ إدارة ترامب توظّف الآن الواقع العربي، وما فيه من صراعات ومشاكل داخلية وانقسام بين حكومات عربية بعضها أقام معاهدات وعلاقات مع إسرائيل وبعضها الآخر لم يفعل ذلك بعد ويدعم قوى المقاومة ضدّ الإحتلال الإسرائيلي، وبين المحورين محور ثالث يترنّح ما بين الإثنين!. أيضاً، تدرك إدارة ترامب حال الملفّ الفلسطيني الذي هو جوهر الصراع في المنطقة لكن المعنيّين بهذا الملفّ ينقسمون الآن بين "مفاوض فقط" وبين "مقاوم فقط" وعلى أرضٍ فلسطينية محتلّة هي نفسها تعاني من انقسام جغرافي وسياسي بين "حكومة التفاوض" و"حكومة المقاومة"!.
هي فرصةٌ كبيرة أمام الحكومات العربية لكي تعيد النظر في خلافاتها وأوضاعها المزرية على أكثر من صعيد، وبأن تجعل من الهمجية والعنجهية الإسرائيلية المدعومة من إدارة ترامب مدخلاً لتضامن عربي يفرض على إسرائيل التنازلات ويعاقبها بالحدّ الأدنى سياسياً واقتصادياً، ويدفع الأطراف الفلسطينية إلى توحيد موقفها السياسي على قاعدة الجمع بين "اليد التي تحمل البندقية، واليد التي تحمل غصن الزيتون"، في جسمٍ عربي أصبح مثقلاً بالجراح ولا يحتمل المزيد منها.
وبغضّ النظر عن الانتخابات الإسرائيلية وعمّن سيشكّل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، فإنّ حقائق الصراع العربي/الإسرائيلي على مدار سبعين عاماً تؤكّد أنّ مشكلة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية لا ترتبط بشخصٍ محدّد أو بحزبٍ ما في إسرائيل. فالجرائم الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني حدثت وتحدث بإشراف من حكوماتٍ مختلفة، بعضها ينتمي لتكتّلات حزبية متطرّفة في الكنيست كتجمّع "ليكود" وعلى رأسه نتنياهو، وبعضها الآخر كان يتبع لأحزاب تتّصف بالاعتدال كحزب العمل الذي قاد عدّة حروب على العرب خلال العقود الماضية.
الأمر نفسه ينطبق على الموقف من القرارات الدولية بشأن القضية الفلسطينية وعلى الاتّفاقات الموقّعة مع "منظمة التحرير الفلسطينية"، ثمّ مع السلطة الفلسطينية، حيث لم تنفّذ الحكومات الإسرائيلية المختلفة هذه القرارت أو الاتّفاقيات، كما واصلت جميعها سياسة التهويد والاستيطان في القدس والضفّة الغربية والجولان رغم تعارض ذلك مع القوانين الدولية، ولم تقم أي حكومة إسرائيلية حتّى الآن بإعلان الحدود الدولية ل"دولة إسرائيل"، ولا بضمان حقوق اللاجئين الفلسطينيين ممّا يجعل أساس الصراع العربي والفلسطيني مع إسرائيل مستمرّاً رغم تغيّر الأشخاص والحكومات فيها.
ولقد عملت إسرائيل، منذ وصول نتنياهو للحكم في العام 2009، على أن تكون أولويّة الصراعات بالمنطقة هي مع خصومها لا معها، بحيث تتحقّق عدّة أهداف إسرائيلية مهمّة جدّاً لكل الإستراتيجية والمصالح الصهيونية في المنطقة والعالم. فالمراهنة الإسرائيلية هي على تهميش الملف الفلسطيني، وعلى كسب الوقت لمزيدٍ من الإستيطان في القدس والضفّة الغربية والجولان، وعلى تفجير صراعاتٍ عربية داخلية، بأسماء وحجج مختلفة، تؤدّي إلى تفتيت الكيانات العربية الراهنة وتدمير الجيوش العربية الكبرى، وعلى إقامة تطبيع سياسي وأمني واقتصادي مع الدول العربية والإسلامية. فتلك الإستراتيجية ستجعل من إسرائيل قوةً إقليمية ودولية كبرى في عصرٍ بدأ يتّسم بالتعدّدية القطبية، بحيث تكون إسرائيل عندها قادرةً على فرض "شرق أوسطي جديد" يسمح لها بتحقيق الهيمنة الأمنية والسياسية والاقتصادية على كلّ المنطقة، بعدما تضع الحروب الإقليمية والأهلية أوزارها.
لكن ما هو أسوأ على صعيد السياسة الأميركية المتّبعة على مدار الصراع العربي/الصهيوني هو أنّ إسرائيل وجدت في "البيت الأبيض" نصيراً لها، هو الأفضل بالمقارنة مع كلّ الرؤساء الأميركيين الذين سبقوا دونالد ترامب في حكم الولايات المتّحدة، مخالفاً ليس فقط قرارات ومرجعيات دولية بل أيضاً سياسات أميركية لأكثر من خمسين عاماً.
الواقع الآن أنّنا نعيش "زمناً إسرائيلياً" في كثيرٍ من الساحات العربية والدولية. زمنٌ يجب الحديث فيه عن مأساة الملايين من الفلسطينيين المشرّدين منذ عقود في أنحاء العالم، لا عن مستوطنين يهود يحتلّون ويغتصبون الأرض والزرع والمنازل دون رادعٍ محلّي أو خارجي. "زمنٌ إسرائيليٌّ" حتّى داخل بلدانٍ عربية كثيرة تشهد صراعاتٍ وخلافات تخدم المشاريع الأجنبية والإسرائيلية، في الوقت الذي تحتّم فيه مواجهة هذه المشاريع أقصى درجات الوحدة الوطنية. زمنٌ تفرض فيه إسرائيل بحث مسألة "الهويّة اليهودية" لدولتها التي لم تعلن عن حدودها الرسمية بعد، بينما تضيع "الهويّة العربية" لأمَّةٍ تفصل بين أوطانها، منذ حوالي قرنٍ من الزمن، حدودٌ مرسومة أجنبياً، وبعض هذه الأوطان مُهدّدٌ الآن بمزيدٍ من التقسيم والشرذمة!!.
الآن، للأسف، لم يعد الصراع العربي/الصهيوني هو قضية العرب الأولى، ولا همّهم القومي المشترك، بل إنّ القضية الفلسطينية برمّتها قد تهمّشت عربياً ودولياً، فلا أحد يضغط على إسرائيل الآن لتحقيق المطالبة الدولية بإقامة دولة فلسطينية مستقلّة ذات سيادة على حدود العام 1967، عاصمتها القدس، ولا طبعاً بإزالة المستوطنات أو حتّى بوقف الإستيطان، ولا بحلٍّ عادلٍ لقضية اللاجئين، وهذه هي القضايا التي دار التفاوض في السنوات الماضية بشأنها، بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية أميركية، منذ توقيع "اتفاق أوسلو" في العام 1993.
التفاوض مع إسرائيل، قبل إدارة ترامب وبعدها، هو مراهنة على سراب، كما هو أضغاث أحلام لا جدوى منها فلسطينياً وعربياً. فما هو قائمٌ على أرض الواقع هو وحده المعيار في أيِّ مفاوضاتٍ أو عدمها. وتغيير الواقع الفلسطيني والعربي هو الحل، وهو الكفيل حصراً بتغيير المعادلات وصنع التحوّلات المنشودة فلسطينياً وعربياً في الموقفين الإسرائيلي والأميركي.