ما يحدث في إيران نفسها يعتبر الأكثر أهمية، فقدسية الخميني وخامنئي سقطت في معقلها وفي مدن كبرى إيران من العاصمة طهران وكرمانشاه وعبادان ووصولا إلى الأحواز، صور الخميني وخامنئي تحترق في الشوارع وتمزقها أيادي مواطنين يعتبرون من جيل الثورة الإسلامية التي ظهرت في 1979، فهذا الجيل الذي خرج للشوارع مدفوعا بما أطلق عليه “ثورة البنزين” هو الجيل الذي دفع أكثر التكلفة من حياته في ظل الدولة الدينية وأفكارها الراديكالية الإيرانية.
المؤكد أن عاملا محفزا كان له الدور الأهم في اشتعال الطوق الإيراني بهذا المستوى غير المسبوق، فالعقوبات الأميركية التي فرضتها الولايات المتحدة بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي شكلت عامل الضغط الأقوى على النظام الإيراني، ومع ذلك لا يمكن تجاهل عوامل أخرى، منها أن السياسات الإيرانية في أربعة عقود عملت على تصدير أفكار الثورة الخمينية وصلت إلى حدود الارتداد على نفسها لعدم وفائها بوعودها.
فمن أفكار الثورة الخمينية أنها نشأت على نصرة المظلومين وتحرير القدس، وفي هذه السنوات الأربعين زاد بؤس المظلومين ليس في الدول المستهدفة لتصدير الثورة، بل في داخل إيران نفسها، فالشعب الإيراني تراجعت حالته المعيشية لدرجة أن إيران تحولت لدولة مشلولة لتعاقب الأزمات الاقتصادية نتيجة السياسات التصادمية مع المجتمع الدولي، فتراجع حال الإنسان الإيراني معيشيا لأسوء وضع منذ ما يقارب المائة عام من تاريخ إيران.
اعتاد النظام الإيراني على الاستقواء بالمظلومية لتجاوز أزماته، وهذا ما أدارت عليه طهران سياساتها بما في ذلك الوصول إلى الاتفاق النووي في 2015، ولكن هذه المنهجية اصطدمت بواقع التراكم الهائل من الأزمات التي شكلتها تلك السياسات، وهذا ما يفسر التزامن في انتفاضات العراق ولبنان وإيران، فكل الدوافع واحدة نتيجة سياسات واحدة أوصلت الشعوب إلى هذا الحد من الخروج الواسع لمحاولة كسر الطوق الإيراني.
كرس النظام الإيراني من أفكاره الراديكالية للعبور فوق الأوطان، واستفاد من تحولات عالمية وأخرى إقليمية لتمرير مشروع الخميني التوسعي، فبين فكرتين يتحرك مشروع التوسع الخميني قوميا ومذهبيا، وكلاهما يتوازيان على اعتبارات النشوء في الدولة الإسلامية بعقيدتها من دون الاعتبار للدولة الوطنية وقيمها ومبادئها، ومع ذلك التمدد فإن الملاحظ أن إيران تحتفظ بالخصوصية القومية، بينما الدول التي أخضعت للسيطرة الإيرانية فقدت بشكل مباشر وطنيتها واستبدلتها بهويات موازية كما هو حال حزب الله اللبناني.
يعتبر النظام الإيراني العراق ولبنان وسوريا حدائقه الخلفية، تلك الحدائق نفسها التي تم تصدير الثورة الخمينية إليها هي التي اشتعلت أولا، ولعل هذا الاشتعال الذي بلغ أهميته في العراق، على اعتبار أنه شب في المناطق الشيعية من هذا البلد الذي أغرق عليه بالطائفية حتى أنه ما أن اشتعل حتى اشتعل رافضا محاصصة سياسية تبقيه سجينا في الدولة الدينية وتخضعه لدولة الولي الفقيه وتخضعه لمواريث تبدو لا تنسجم مع التقدم الإنساني.
اعتمدت الخمينية على تصدير الفوضى للمنطقة وتحالفت مع مختلف القوى المعادية للدولة الوطنية، وعلى ذلك كان حلف تنظيم الإخوان واحدا من أهم حلفاء إيران، فكلاهما يعتمدان سياسة تفتيت الدولة الوطنية العربية، هذه الفوضى لم تكن في 2011 سوى إفراز لسنوات من تكريس مسبباتها عبر الكيانات الموازية والخطابات العابرة للدول الوطنية وتقسيم المجتمعات المحلية على أسس طائفية باستدعاء الموروثات التاريخية.
أربعون عاما من هذه السياسة خلقها النظام الإيراني في المنطقة العربية، وبرغم دعوته لمحاربة إسرائيل فإنه لم يدخل مع إسرائيل في أي مواجهة عسكرية، بل وضع شعوب فلسطين وسوريا ولبنان في مواجهات غير متكافئة مع إسرائيل تكبدت فيه الشعوب العربية خسائر فادحة في البنية التحتية، ولعل ما حدث في لبنان عام 2006 يظل نموذجا من نماذج السياسة الإيرانية، يضاف إلى ذلك الانقسام الفلسطيني الذي كرسه الإيرانيون لتحقيق مكاسب على حساب القضية الفلسطينية.
(قد) لا يتمكن الشعب الإيراني من إسقاط النظام، غير أنه سينجح في إضعافه كما كانت الانتفاضة الخضراء في 2009 والتي خذلها المجتمع الدولي، لكنها كسرت حاجز الرهبة عند الشعب الإيراني، ومع المتغيرات والعوامل التي دفعت شعوب “الهلال الشيعي” للخروج ورفض السياسات الخمينية، فإنه من الأهم أن يتم دعم توجهات هذه الشعوب وإسنادها في سعيها للتغيير، فمشاريع الإسلام السياسي مصيرها المحتوم الاحتراق تماما، كما هي الخمينية التي تحولت نيرانها لداخلها تأكل بعضها بعضا.
-سكاي نيوز