أزراج عمر يكتب:
هل هناك كتابة أدبية أصيلة وأخرى لا
في تقديري فإن قراءة الدارسين والنقاد العرب لكتابات إدوارد سعيد قد هيمنت عليها النزعة السياسية النضالية التبسيطية غالبا، وذلك منذ صدور كتابه الشهير الاستشراق، ومرورا بكتابه، في النقد الثقافي الكولونيالي وما بعد الكولونياليي، الثقافة والإمبريالية، إلى كتبه ذات الطابع السياسي مثل تغطية الإسلام، فضلا عن المؤلفات التي كرسها للقضية الفلسطينية وتمثلاتها في كتابات الغربيين ومواقفهم بشكل خاص.
لقد أدى هذا النمط من القراءة إلى استبعاد التفاعل الفكري الجدي والمثمر مع خصائص البناء النظري لكتابات إدوارد سعيد من جهة، و من جهة أخرى مع إسهامه في تطوير النقاش حول حقول الفلسفة ونظرية الأدب والفن الذي يتجلى بقوة خاصة في كتبه التالية، بدايات: القصد والمنهج، العالم، النص، الناقد، الأدب والمجتمع، صور المثقف، وفرويد وغير الأوروبيين.
في هذه الكتب الأخيرة نرى سعيد يقدم نموذجا ناجحا للكيفية التي ينبغي من خلالها ممارسة الحوار مع الأسس النظرية للمنظورات النقدية الغربية ضمن نسق التراث الفكري الغربي وفي أطره الثقافية والحضارية والتاريخية، وذلك بقصد تخصيب النقاش الهادف إلى ابتكار الحلول للمشكلات الكبرى التي تتخلل النسيج العضوي لهذا الفكر ومنظوراته وعلاقته بالآخر غير الغربي.
ومن الملفت للنظر هو أنه يندر أن نجد حتى الآن، بين نقادنا المعاصرين، من يناظر إدوارد سعيد في هذا الخصوص. سأتوقف بعجالة عند حوار إدوارد سعيد مع قضية الأصالة التي ما تزال محل أخذ وردّ في الساحة الفكرية الغربية على مستويات الأدب والفن والفلسف والسيكولوجية، وأوضَح مسبقا أن مداخل سعيد إلى مفهوم الأصالة متعددة، وهو الأمر الذي يبرز لنا أن الناقد المعاصر يتميز، أو يحتاج أن يتميز بالموسوعية نظريا واستيعابا لمؤلفات عصره ولتنوع الثقافات الإنسانية.
بادئ ذي بدء لا بد من التذكير بأنه يوجد مصطلحان يكادان يعنيان شيئا واحدا وهما مصطلح الأصالة “Originality” الذي يعني الأصلي، ومصطلح “Authenticity” الذي يعني الأصلي ليس بمعنى الأصل منذ البداية بل بمعنى الحقيقي والصادق وغير المزيف بغض النظر عن السبق من عدمه زمنيا.
ينبغي تسجيل ملاحظة أخرى وهي أن إدوارد سعيد يناقش مصطلح الأصالة أيضا بعيدا عن الخلفيات السياسية والعرقية والنازية التي نجدها عند أدورنو في كتابه “رطانة الأصالة أو الحقيقي”، حيث قدم نقدا صارما لنزعة التمركز الإثني والعرقي في توجهات فلسفة مارتن هيدغر التي أبرز أنها تتكئ على مصطلح الأصالة/ الحقيقي بدلالاته السلبية بهدف إقصاء الآخر غير الجرماني.
بعد عرض مقاربة إدوارد سعيد لمفهوم الأصالة سأحاول من جهتي أن أجيب عن هذا السؤال، هل تنجز القصيدة أصالتها، مثلا، من تطابقها مع وقائعية الحدث أو حرفية الواقع الذاتي؟ في البداية نقتصر على بعض التعريفات التي يقدمها إدوارد سعيد لمفهوم الأصالة ونستبعد تتبع زخم التفاصيل والشواهد التي يدرجها في مقاله الموسوم “حول الأصالة” أو في مقاله “حول التكرار”، وكلاهما منشوران في كتابه اللامع “العالم، الناقد، النص”، لأن ذلك يتطلب الكشف النظري عن تحولات هذا المفهوم وجذوره الدينية، واللغوية والنفسية وهلمّ جرا.
في تقدير إدوارد سعيد فإن الأصالة لها علاقة بالكيفية، أو السجية، أو النوعية، وهي “فكرة تبدو أساسية لتجربة الأدب”، لأن الإنسان في تقديره “لا يتحدث فقط عن الكتاب باعتباره أصيلا، وعن كاتب يملك أصالة أكبر أو أقل من كاتب آخر، ولكنه يتحدث أيضا عن أصالة استعمال مثل هذا الشكل، أو النمط، أو الشخصية، أو البنية “، ثم يؤكد أنه “توجد نسخ متخصصة من الأصالة في كل التفكير حول الأصول الأدبية، الجدة، الراديكالية، الابتكار، التأثير، التقاليد، الأعراف، والمراحل الأدبية“ طبعا.
وهنا نقدر أن نخلص إلى استنتاج وهو أن كل التراث الفلسفي المثالي الغربي يطفو مباشرة إلى السطح و يذكرنا بذلك التقسيم الذي دشن بين المثل وبين الظواهر، وبين الظن والرأي، وبين الظاهرة والشيء في ذاته، وبين الكلام الذي يروج له بأنه تزامني يقبض على سيلان الحقيقة في حين تجليها، وبين الكتابة التي تتهم بأنها تعاقبية وتنقل انتقائيا جزءا من الحدث بعد حدوثه وتهمل أو تنسى أجزاء حقيقة أخرى.
يحاجج إدوارد سعيد أن مفهوم الأصالة جدير بالاختبار، ثم يبرز أن قضية التقسيم التقليدي “بين الكتابة الإبداعية الأصيلة وبين الكتابة النقدية التأويلية” تطرح أيضا تقسيما آخر عند أصحاب هذا التقسيم التقليدي، ويتمثل في أن “الكتابة الإبداعية الأصيلة هي الأساسية، في حين أن أي نوع آخر هو ثانوي”.
ولاشك أن الفرضية السائدة في التأريخ التقليدي للأدب تلحّ هنا وهناك على أن النقد تابع للعمل الأدبي كما في القصيدة أو الرواية أو القصة القصيرة، ولكن العملية النقدية في حقيقتها ليست مجرد شرح أو تأويل للنص الإبداعي، وإنما ثمة نقد يقدم فكرة سرعان ما تتحول على يد شاعر ماهر إلى بنية جديدة لقصيدة أو تجرّ الشاعر إلى عالم مختلف عن العالم الذي اعتاده كمنبع لتجربته الشعرية.
في هذا السياق نتذكر أن الرومانتيكية قد تركزت على فكرة الأصالة أيضا، أي أصالة ذات الشاعر التي تتكلم في القصيدة، في حين قامت الحداثة الشعرية بتوجيه ضربة قوية لهذا التقليد الرومانتيكي بتأكيدها أن الشعر هو هروب من شخصية الشاعر وتعويض ذلك بالتعبير بواسطة المعادلات الموضوعية، منها الأقنعة الأسطورية، أو التاريخية، أو الحضارية، أو الروحية التي تتوسط بين الشاعر وبين العالم.