هاني مسهور يكتب:
لماذا يغيب «الإخوان» عن انتفاضات 2019؟
بين موجة ما يسمى «الربيع العربي» 2011، وموجة انتفاضات 2019، عديد من ما يستدعي استحضاره، تأملاً وقراءة وحتى استشرافاً لقادم سيأتي، ويبدو أن مدخلاً لهذه التأملات والقراءات يبدأ من غياب الخطاب الإسلاموي المشحون بالكراهية، كما أن موجة الانتفاضات التي انطلقت من السودان والجزائر، وتسللت للعراق ولبنان تتقاطع في نهجها الوطني، بعيداً عن النهج العاطفي الممزوج بالأسلمة.
اتخذت انتفاضات الشعوب السودانية والجزائرية والعراقية واللبنانية نهجاً واضحاً، بالالتزام الكامل بالتعبير السلمي عن مطالبها في التغيير السياسي ورفض التجارب السياسية، التي توالت منذ أن حصلت تلك الدول على استقلالها الوطني، هذا النهج لا يماثل إطلاقاً موجة ما يسمى (الربيع العربي)، التي اعتمدت التصادم المباشر مع الأنظمة السياسية، مما أغرق تلك الموجة الأولى في فوضى لم تنته، ولا يمكن حتى التنبؤ بمدى نهايتها.
تبدو تجربة السودان، أكثر تلك التجارب أهمية في المقاربات المطروحة، على اعتبار أنها تجربة مركبة ومعقدة للغاية، فلقد نجح الشعب السوداني في تحقيق التغيير، معتمداً على إرث الدولة الوطنية، وملتزماً بالمسار السلمي في مطالباته، والأهم أنه تعامل مع الدولة العميقة التي يشكلها تنظيم «الإخوان»، وبرغم أنه لا يمكن – حالياً- القول باكتمال التغيير في السودان، غير أنه يمكن استشراف أن مستقبل التغيير بات ممكناً، لوضوح الرؤية المرسومة بالتوافق بين الحراك والجيش الوطني.
تمثل التجربة السودانية أهمية بالغة، لأنها تعاملت مع النواة الصلبة للتنظيم الدولي لـ«الإخوان»، والإفرازات المرحلية، وإن كانت تشوبها الشوائب إلا أنها تصب في المسار الإيجابي، نجاح المزاوجة بين الأفكار التي قدمتها قوى الحرية والتغيير، والتدخل من جانب الاتحاد الأفريقي، أنتج هذه الإفرازات الصحيحة، لشكل من أشكال الدولة القادرة على تحقيق الانتقال السياسي.
واقعية الحالة العربية في عدد من الأقطار، أنها تخضع لمحاصصات إما طائفية أو مناطقية، كرست من الانفراد بسلطة الحكم السياسي، التي بدورها عملت على تفشي الفساد، الذي أوجد هوة عميقة في المجتمعات العربية، هذه الحالة ليست استثناءً في بلد بعينه، فهي متكررة في أكثر من بلد عربي، لعبت فيه الإيديولوجية أدوارها، وعقدت من الحياة الاقتصادية، وصنعت واقعاً اجتماعياً متردياً.
الاهتزازات التي نتجت في 2011 لعدد من الأنظمة العربية، كانت خلفها قوة دفع «الإخوان»، الذين اتخذوا من العنف وسيلة من وسائلهم الأساسية، بعد أن اعتقدوا أن الفرصة المواتية قد حانت لهم، ليتبادلوا مع قوة إقليمية المرحلة بالتوسع والنفوذ، الذي ما زال هو المحرك الذي يحرك الطرفين، وإن اختلفت مرجعية «الإخوان»، وهذه القوة مذهبياً، غير أن تقاطع المصلحة يجمعهما.
وبالعودة للمقاربة، فإن 2011 حمل رياحاً فوضوية مسمومة، اعتمدت على بعث الكراهية من مراقدها، وإخراج ما يبعث على المواجهة ليس فقط بين الأنظمة والتغيير، بل بين الفئات المجتمعية نفسها، وهذا ما أوصل ليبيا إلى هذا الناتج من التفكك في الكتلة الاجتماعية نفسها، بعد أن استطاع الخطاب «الإخواني» المأزوم من تأجيج الصراعات القبلية التاريخية، وألحقها بالخطاب المشحون، الذي ارتكز على الأبعاد المناطقية، مما فجّر صراعات متعددة المحاور والأقطاب.
ليبيا ليست الوحيدة هنا، فاليمن وسوريا دخلت في ذات الدائرة من الصراعات، التي حولتها إلى حروب أهلية مفتوحة، باتت فيها الحلول صعبة للغاية مع السنوات الطويلة من الاقتتال المجتمعي، في حين أن السودان والعراق ولبنان والجزائر تجارب مختلفة تماماً، نظراً لانعدام الخطاب الراديكالي، فالموجة المتحررة من قيود ذلك الخطاب، تحمل أيضاً رغبة جامحة في التخلص من موروثات «المتأسلمين»، أو غيرهم من المستفيدين من السلطة الدينية على المجتمعات.
حراك الشعوب، ونمطية التغيير التي طرأت على مشهد انتفاضات 2019، وإنْ كان يحمل بواعث الخوف من الانزلاق نحو مسارات الفوضى، فإنه يظل قادراً على السير في حقول الألغام، مع تفاقم الأزمات في المعقل الإيراني والتركي، فكلا النظامين يخضعان أيضاً لانتفاضات داخلية، حتى وإنْ نجح كل نظام في طهران وأنقرة على أن يحجمان تلك الانتفاضات، فالحقيقة الثابتة أن ضغوط الخارج والتحولات العالمية، ستبقيهما معاً في دوائر الضغط، مما سيقلص تأثيرهما على حراك سواء ذلك الذي في مناطق النفوذ الإيراني الممتد من بغداد وحتى بيروت، أو في الرغبة التركية لتثبيت قواعد تنظيم «الإخوان» في اليمن وليبيا.
المحصلة المؤكدة، أن المنطقة العربية باتت أكثر استيعاباً لوقائع 2011، والشعوب عبر شرائحها المجتمعية تبذل جهودها لتكريس قوة الدولة الوطنية، بعد عقود من الفشل السياسي، الصراع لن يكون من السهولة تجاوزه، بغير الإقرار أن التغيير ممكن باشتراط حماية المكتسبات من بعث كراهية الآخرين في المجتمع الواحد، وكذلك الاقتناع أن التغيير يتطلب مراحل طبيعية، تضمن عدم الانكسار أو حدوث خلل في التوازنات، القائم عليها كل مجتمع على حدة.