بهاء العوام يكتب:

زيارات ترامب إلى بريطانيا

للمرة الثالثة منذ وصوله إلى البيت الأبيض نهاية عام 2016، يزور الرئيس الأميركي دونالد ترامب بريطانيا. الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة حافظ على تحالف بلاده الاستراتيجي مع لندن مع إضافة لمسته الخاصة. تلك اللمسة التي تعبر بوضوح عن يمينيته من جهة، وعقليته التجارية من جهة أخرى.

الزيارة الأولى لترامب كانت في شهر يوليو 2018. مئة ألف شخص جابوا شوارع لندن رفضا للزيارة وارتفعت دمية قبيحة للزائر فوق سماء العاصمة. ذات الأمر تكرر في الزيارة الثانية التي قام بها ترامب خلال شهر يونيو 2019، ولكن عدد المتظاهرين في هذه الزيارة تضاعف مقارنة بسابقتها.

حماية ترامب في زيارته الأولى كلفت الحكومة البريطانية التي كانت ترأسها تيريزا ماي، نحو 22 مليون دولار. وفرت الملايين الحماية للزائر ولكنها لم تحم المضيف من النقد. فقبل أن ينزل ترامب من طائرته وصف صفقة ماي للخروج التي كانت قد أبرمتها مع بروكسل بأنها غير ناجحة وتقود إلى الفوضى.

في الزيارة الثانية اتسعت دائرة انتقادات الرئيس الأميركي لساسة المملكة المتحدة لتطول زعيم حزب العمال المعارض جيرمي كوربين، وعمدة لندن صادق خان. ولكن العلامة الفارقة لهذه الزيارة كانت في تبشير ترامب ببوريس جونسون رئيسا مقبلا للوزراء، رغم أن ماي لم تكن قد استقالت من منصبها به.

صدقت نبوءة ترامب. ترأس جونسون الحكومة خلفا لماي منذ عدة أشهر، وهاهو اليوم ينافس في انتخابات عامة مبكرة يطمح فيها لأكثرية نيابية تتيح له إتمام طلاق لندن وبروكسل وفقا لصفقة أبرمها مع الاتحاد الأوروبي منذ نحو شهرين. لا تعجب ترامب هذه الصفقة أيضا ولكنه لم يتخل عن دعمه لجونسون.

دعم جونسون في الانتخابات البريطانية المقررة في الثاني عشر من الشهر الجاري، من أبرز عناوين زيارة ترامب الثالثة للمملكة المتحدة. فهذه الزيارة تسبق الانتخابات بعشرة أيام فقط. مصلحة الرئيس الأميركي تكمن في فوز المحافظين اليمينيين والمؤيدين للخروج، ولهذا سيحاول دعمهم في هذه الزيارة.

إعلاميا طلب جونسون من الرئيس الأميركي ألا يتدخل في الانتخابات، ولكن باطن الأمور في السياسة لا تتفق غالبا مع ظاهرها. خاصة وأن صديق ترامب المفضل في المملكة المتحدة، زعيم حزب بريكست نايجل فراج، قد استمع لنصيحة صديقه وأعلن تأييده للمحافظين وعدم منافستهم في دوائرهم الانتخابية.

تأثير ترامب في الانتخابات البريطانية بدأ من قبل أن يصل. تصريحاته وتغريداته حول الاستحقاق البريطاني تؤثر في المزاج العام لبعض الفئات من الناخبين، وخاصة عندما يتحدث عن طلاق لندن وبروكسل. يريد الرئيس الأميركي لهذا الطلاق أن يقع بأي ثمن، وكأن وقوعه سيحسم فوزه هو بولاية رئاسية جديدة في أميركا.

يتشابه ترامب في موقفه من الخروج مع زعيم حزب بريكست نايجل فراج الذي يريد طلاقا دون اتفاق. لذلك ترى الرئيس الأميركي ينتقد كل اتفاق تبرمه لندن مع بروكسل. وفي كل مرة يستخدم الحجة ذاتها وهي أن الاتفاق لا يسمح للبريطانيين بإبرام اتفاق تجارة حرة مع بلاده بعد مغادرتهم للاتحاد الأوروبي.

ربما يريد ترامب شراء خدمات القطاع الصحي في بريطانيا بعد الخروج، كما تقول الوثائق التي كشفها مؤخرا زعيم العمال جيرمي كوربين. وربما يريد ترامب أن يتحول خروج بريطانيا إلى وباء ينتشر في القارة العجوز، فيتفكك التكتل الأوروبي الذي يستفيد من أميركا أكثر مما تستفيد منه، كما يرى ترامب طبعا.

وبغض النظر عن نوايا الرئيس الأميركي من وراء دعمه لبريكست، فإن أجندة زيارته الثالثة للمملكة المتحدة تضم عناوين أخرى ذات اهتمام مشترك بين البلدين. بعض هذه العناوين سيناقش خلال قمة الناتو التي تحتضنها لندن، وبعضها سيبقى في إطار العلاقات الثنائية التي يسودها التفاهم والاتفاق إلى حد كبير.

لن يتردد ترامب في مكاشفة رئيس وزراء بريطانيا حول ما يتمناه من تسويات بين تركيا والاتحاد الأوروبي. ولن يخجل أيضا من الحديث حول التقرير الذي أعدته المخابرات البريطانية بشأن تدخل روسيا في انتخابات الرئاسة الأميركية. كذلك لن يخفي رغبته في موقف بريطاني وأوروبي أكثر صرامة إزاء الاتفاق النووي الإيراني.

المشكلة أن الحكومة البريطانية لن تكون منفتحة على خطوات قد تحرجها قبيل الانتخابات البرلمانية المقبلة. لكن يمكنها محاولة احتواء التوتر بين الأتراك من جهة، والفرنسيين والألمان من جهة ثانية، وتلطيف الأجواء بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي يطالبها ترامب بزيادة إنفاقها لصالح حلف الناتو.

يمكن أن تنطوي اللقاءات بين ترامب وجونسون على أكثر من ذلك، ولكن جميع الوعود ربما تؤجل إلى حين وضوح مصير الحكومة البريطانية المقبلة. وخاصة عندما يتعلق الحديث بقضايا داخلية يكترث لها البريطانيون، مثل مطالبة واشنطن للندن بتسليمها مؤسس موقع ويكيليكس جوليان أسانج، والملياردير مايكل لينش.

يتمنى مناهضو ترامب أن تكون هذه آخر زياراته إلى لندن، أما الطامحون إلى الخروج فيرغبون في رؤيته ثانية العام المقبل وهو يوقع اتفاق تجارة حرة مع جونسون. يصعب رصد شعبية ترامب في بريطانيا، ولكن لا توجد مساحة كبيرة للحياد بين البريطانيين تجاه ترامب. وهم في هذا ليسوا وحدهم بين شعوب العالم.