عمر علي البدوي يكتب:
السعودية: لماذا الدرعية؟
حازت منطقة الدرعية التاريخية في العاصمة السعودية الرياض بكثير من الاهتمام الذي تجاوز محليته إلى البعد العالمي، بعد أن نظمت فيها الكثير من الأحداث العالمية؛ الرياضية والفنية والتراثية .
كان يمكن لهذه البلدة الزراعية الصغيرة أن تُنسى، ولمبانيها الطينية أن تختفي خلف الأبراج العصرية وأن تفقد بريقها أمام المباني الزجاجية التي تحتفظ بوهج الشمس اللاهب، وأن تسحقها قوة المدينة الحديثة الناشئة على جانبها، وتلغي حضورها في نفوس السعوديين. لولا أنهم بحاجة إلى تعريف أنفسهم من هذه النقطة، وتشكيل سردية جماعية لنواتها الدرعية التي كانت مبعث مشروع سياسي فريد انتظم في أنحاء واسعة من الجزيرة العربية، وانخرط أفرادها في أكبر تحوّل تنموي عرفته المنطقة حديثا وشهدت به مخرجاته المادية والبشرية.
فضلا عن إعادة الاهتمام الرسمي بالمنطقة في سبيل توثيق التراث المحلي الذي نشط في العقد الأخير، الأمر الذي زاد زخمه بإضافة مفردات جديدة في وعي وواقع العمل الرسمي والذهنية الاجتماعية، مثل الحفاوة بالتراث المحلي وجودة الحياة والترفيه واستظهار المقدرات التاريخية للبلاد، وانعكس الحال على مناطق ذات رمزية تاريخية في الوجدان السعودي، ومن بينها الدرعية.
ولعلها مفارقة تلفت الأنظار أن الدرعية تشهد أكبر استعادة لحظوتها في الوجدان العام بالتزامن مع انطلاق السعودية إلى رؤيتها الواعدة في 2030، وأكبر قفزة في عمرها المعاصر، وكأنه إعادة استنطاق لهذه البقعة الأثيرة في تاريخها وتجديد لفحوى البدايات المتطلعة لقيام الكيان الموحد.
تمثل الدرعية رمزا وطنيا بارزا في تاريخ المملكة العربية السعودية، فقد ارتبط ذكرها بالدولة السعودية الأولى وكانت عاصمة لها، ولقد شكلت منعطفا تاريخيا في الجزيرة العربية، بعد أن ناصر محمد بن سعود دعوة التجديد الديني التي نادى بها محمد بن عبدالوهاب عام 1744، فأصبحت الدرعية قاعدة الدولة ومقر الحكم والعلم، واستمرت كذلك إلى أن اختار تركي بن عبدالله الرياض مقرا جديدا للحكم وذلك عام 1824.
استمرت الدرعية المدينة الأشهر في جزيرة العرب خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين، السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، وظلت مشهورة حتى بعد أن ألحقت جيوش الدولة العثمانية التدمير بها وبمحيطها الجغرافي، سنة 1818.
في سنة 2010، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة أن حي الطريف في مدينة الدرعية موقع تراث عالمي.
العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز له اتصال أثير بالدرعية، أنعشها من رماد الماضي، وحافظ على عمرانها من انتهاك التوسع العمراني وبشاعة النسيان، تحفظ له الكثير من الحكايات الشفهية شغفه بهذه المنطقة التاريخية، والعمر العريض الذي قضاه أميرا لمنطقة الرياض، مكنه من صون تراثها وإعلاء شأنها وهو الشغوف بالتاريخ والمتيّم بتراث البلاد.
وتحظى الدرعية اليوم، بهيئة رسمية خاصة لتطويرها والمسؤولة عن حفظ وصون وتطوير موقع الدرعية التاريخي، ليصبح إحدى أكبر وأهم مناطق تجمع الفعاليات والأنشطة في العالم، ومعلما عالميا يرسخ القيم التراثية والتاريخية، ويقدم لضيوفه بمختلف أعمارهم، تجارب غنية، ما يجعلها وجهة مميزة يفخر بها الشعب السعودي.
كما خصص موسم الدرعية، وهو أحد مهرجانات مواسم السعودية الـ11 التي أُطلقت على مستوى المملكة بدءا من عام 2019 وتهدف لتحويلها إلى وجهة سياحية عالمية، تصل مدة المهرجان الذي يقام في مدينة الدرعية إلى نحو شهر بدءا من 22 نوفمبر حتى 21 ديسمبر، ويتضمن فعاليات رياضية وترفيهية وثقافية.
واستطاع هذا الموسم بفعالياته المتنوعة أن يعيد اتصال المجتمع السعودي بهذه البقعة التاريخية، مثلما جعلها محط أنظار العالم وهي تشهد أحداثا رياضية عالمية، وجعلها اسما ورمزا مطروحا تحت أضواء الإعلام والاهتمام، كما اختارت وزارة الثقافة المنشأة مؤخرا في السعودية، من الدرعية مقرا لها، ومكانا يعتني بمكونات وخطوات الأمس، لتبني منها حكمة اليوم وبصيرة الغد.
للدرعية علاقة مع المحاولات المتكررة لبناء كيان دولتي، لمرتين في تاريخ المنطقة احتضنت الدرعية جهود إنشاء كيان سياسي يعصم أهل الجزيرة من الفرقة والاحتراب، وشهدت على مكابدات أهلها لتوحيد البلاد، وقد قام الأتراك بتدمير الدرعية قبل 200 سنة وحرق مزارعها وإجبار أهلها على هدم بيوتهم ثم قتلهم.
وكما كانت الدرعية شاهدة على جروح الذاكرة المحلية، ستكون منطلقا لأحلام اليوم؛ وعود المستقبل المبشرة بازدهار هذه البلاد وإعمار أرضها وتنمية أنحائها واستقامة أهلها ورفاه إنسانها.