بهاء العوام يكتب:
القائد المنتظر للعمال البريطانيين
لم تحمل امرأة راية حزب العمال البريطاني على مدار تاريخه. ربما حان الوقت لذلك بعد تلك الهزيمة التي مني بها الحزب في الانتخابات العامة الأخيرة. كانت الخسارة الأكبر للحزب منذ عام 1935، رغم أنه اتسع تحت قيادة جيريمي كوربين ليصبح أكبر أحزاب القارة الأوروبية بنصف مليون عضو.
مارغريت بيكيت، نائبة وسياسية عمالية، تسلمت قيادة الحزب بالإنابة لثلاثة أشهر فقط إثر الموت المفاجئ لرئيس الحزب جون سميث عام 1994. فاز العمال حينها بانتخابات البرلمان الأوروبي، ثم فازوا في الانتخابات البريطانية العامة التي وصل فيها طوني بلير إلى السلطة في يوليو 2007.
بيكيت كانت أول امرأة تتولى وزارة الخارجية البريطانية. كان ذلك في عهد بلير. وربما يتمنى كثيرون لو استمرت بيكيت في قيادة الحزب بدلا من بلير الذي جر الحزب والبلاد ككل إلى خطأ كبير اعتذر عنه لاحقاً، وهو مشاركة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في الحرب على العراق عام 2003.
بلير كان واحداً من ستة قادة للحزب وصلوا بالعمال إلى رئاسة الوزراء خلال مئة وعشرين عاماً. فقد تأسس الحزب عام 1900 عبر مجموعة حركات عمالية توحدت لتجعله ثاني أكبر الأحزاب البريطانية منذ 1924. وعلى امتداد هذا التاريخ الطويل تعاقب أربعة وعشرون شخصا على زعامة الحزب.
استدعاء بلير في الحديث حول الشخصية المرتقبة لخلافة جيريمي كوربين يستند إلى سببين. الأول هو التعليقات السلبية المستمرة لرئيس الوزراء الأسبق إزاء الحزب والحال الذي انتهى إليه بعد الانتخابات البريطانية الأخيرة، أما الثاني، فهو بعض صفات لبلير ربما يحتاجها الزعيم المقبل للعمال.
قبيل الانتخابات الأخيرة قال بلير إن كلا من الحزبين الرئيسيين، العمال والمحافظين، لا يستحق الفوز. أخطأ رئيس الوزراء الأسبق في التقدير لأن تقديراته كانت بدافع تأييد البقاء داخل الاتحاد الأوروبي، تماما كما فعلت زعيمة الليبراليين الديمقراطيين التي خسرت مقعدها في البرلمان البريطاني الجديد.
لكل زمن فرسانه، وبلير ليس واحدا من فرسان السياسة البريطانية اليوم. لكن تجربته في قيادة العمال على مدار ثلاثة عشر عاما، ربما تستحق التأمل في سياق البحث عن مواصفات خليفة كوربين. ليس لأن بلير هو الأفضل في تاريخ الحزب، وإنما لأنه يجسد الفروقات الحقيقية بين السياسي والثوري.
قرّب طوني بلير حزب العمال من يسار الوسط إلى درجة كبيرة. بشكل أو بآخر، يمكن القول إن العمال في زمن بلير جنحوا إلى الرأسمالية قليلاً. لم تكن تلحظ في زمن ذلك الزعيم تلك الفروقات الواضحة بين استراتيجيات الطبقة الكادحة، وأفكار أصحاب الأعمال وأرباب الملايين الذين ينتمي إليهم بلير.
ربما يحتاج العمال إلى سياسي براغماتي مثل طوني بلير ليقودهم في المرحلة المقبلة. شخص لا يبشر بثورة اشتراكية في البلاد كما فعل جيريمي كوربين. وإنما يروج لأفكاره الاشتراكية إن جاز التعبير، بثوب من حقوق الإنسان وشعارات دعم الاقتصاد الوطني التي تستقطب البريطانيين على اختلاف مشاربهم.
السياسي وليس الثوري، هو أيضاً من يعرف الفارق بين الرسائل الموجهة للخارج وتلك التي يخاطب بها الداخل. يعرف كيف يعلن تأييده أو رفضه لشيء ما يحدث خارج الحدود، دون أن ينعكس ذلك على شعبية الحزب وتوجهات الشارع البريطاني، فالأولوية دائماً وأبداً للداخل، مهما بدا الخارج مهماً.
المواقف الرمادية إزاء الأحداث والقضايا المعقدة هي أيضاً ميزة السياسي. وعندما يستعيرها ثوري مثل كوربين ليوظفها في الزمان والمكان الخاطئين، تكون الكارثة. رمادية كوربين في التعامل مع قضية بحجم ملف الخروج هي التي أدت إلى الخسارة المدوية التي لحقت بالعمال في الانتخابات الأخيرة.
ميزة أخرى تسجل لطوني بلير سجلت من قبله للمرأة الحديدية مارغريت تاتشر وسجلت من بعده لبوريس جونسون، ألا وهي تشكيل التحالفات الشعبية المؤيدة له من داخل الحزب وخارجه. هذه الميزة يحتاجها الزعيم المقبل للعمال كي يستعيد ثقة البريطانيين بحزبه، كمنافس حقيقي للمحافظين.
أن تكون زعيماً سياسياً وليس رئيس حزب فقط، أمر يحتاج لدهاء أكثر بكثير مما يحتاج إلى الثورية. لا يفتح الزعيم النار في الداخل إلا على خصم سياسي، وليس اقتصاديا أو دينيا أو اجتماعيا. ولا يؤيد في الخارج إلا تلك الدول التي تدعم مصالح بلاده وتزيد من رصيدها مادياً أو دبلوماسيا أو عسكريا.
ثمة فرق بين قيادة الأحزاب السياسية، وقيادة حراك عمالي على الطريقة السوفيتية. يجب أن يتأمل الزعيم المرتقب للعمال في مواطن ضعف الحزب قبل قوته. كذلك عليه أن يتفحص أسباب تأخر اليسار عموما في أوروبا، دون أن يتجاهل الفروقات بين المملكة المتحدة وأي دولة أخرى في القارة العجوز.
لا يكفي أن تمتلك أكبر قاعدة شعبية لحزب سياسي في القارة الأوروبية حتى تقود دولة مثل بريطانيا. هذه واحدة من الحقائق التي توصل إليها حزب العمال اليوم. وإعادة لم شمل هذه القاعدة وتوحيد صفوفها وراء أهداف واضحة، ستكون أولى مهام الزعيم الجديد للحزب، سواء كان رجلاً أم امرأة.
ثمة مرشحات عديدات لخلافة كوربين. وثمة مرشّحون أيضاً، ولكن بعدد أقل كما يتسرب عبر وسائل الإعلام المحلية حتى الآن. ليس جنس الزعيم هنا هو المهم فقط، وإنما الرؤية والاستراتيجية اللتان سيقود بهما الزعيم الحزب لتوحيد صفوفه أولاً، ومن ثم العودة إلى واجهة الحياة السياسية للبلاد.
ربما يمنح اختيار امرأة لخلافة جيريمي كوربين دفعة كبيرة من التفاؤل بعودة سريعة للحزب إلى صدارة المشهد السياسي. دعم واحدة من المرشحات الخمس اللواتي تتداول وسائل الإعلام أسماءهن، سيفتح صفحة جديدة بين الحزب وأعضائه من جهة، وبين الحزب والبريطانيين عموما من جهة أخرى.
الولاء لاشتراكية كوربين هو نقطة ضعف في أي من مرشح لخلافته. كذلك تأييد البقاء داخل الاتحاد الأوروبي. هناك أيضا تهمة معاداة السامية التي بقيت تلاحق كوربين طوال عهده. كل هذه إشكاليات يجب على الزعيم المقبل للعمال أن يكون بعيداً عنها كي تسقط أسباب الانقسام داخل الحزب.
وزيرة الخارجية في حكومة الظل إيميلي ثورنبيري أول من أعلن ترشحه لزعامة العمال اليوم. ثمة أخريات لم يعلنّ ترشحهن بعد، ولكن الحديث عن قيادة نسائية للحزب يتزايد في الإعلام البريطاني في ظل وجود خمس نساء على الأقل، يتمتعن بحضور جيد وقبول كبير بين ساسة الحزب ونوابه وأعضائه.
عملية انتخاب خليفة لكوربين ليست سهلة. القوانين الناظمة للحزب في هذا الشأن معقدة قليلاً، والتحديات التي تنتظر الزعيم المقبل، رجلاً كان أم امرأة، كثيرة وكبيرة. يحتاج العمال لاختيار دقيق يعيد للحزب قوته. وبتعبير آخر، يحتاجون إلى زعيم يقودهم بحنكة السياسي وانفتاح الاقتصادي وصبر الثائر.