عمر علي البدوي يكتب:

الخليج ما بعد سليماني

بلا شك سيكون العالم أقل شرورا بمقتل زعيم ميليشيا فيلق القدس قاسم سليماني، لكنه لن ينجو من تبعات ذلك بشكل أو بآخر. مقتل سليماني يشبه مقتل أبوبكر البغدادي، من حيث التأثير على عنفوان التطرف والتقليل من فعاليته، ولكنه لا يعني نهايته بالضرورة.

بكل الأحوال، فإن منطقة الخليج العربي هي المنطقة الأكثر سخونة هذه الأيام بعد مقتل واحد من أكثر رموز الفوضى وتقويض الاستقرار ونشر الخراب في محيطه وداخل دوله، والأيام القليلة القادمة ستكون محمومة وموسومة بالترقب والتكهنات ودرجة عالية من الاستنفار.

يحمل سليماني على عاتقه سيرة غير حميدة من الإضرار بدول الخليج، في الكويت من خلال خلايا التجسس التي زرعها والأسلحة التي واظب على تهريبها إلى داخل البلد، وفي البحرين التي أشرف على تدريب المتطرفين فيها وعكف على تلقينهم مفردات التطرف والإرهاب، وانتهاء بالسعودية التي اتخذها مرمى أهدافه النهائية وثمرة مشروعه التخريبي. كل ذلك تبدد بفضل رد الفعل الخليجي الذي حصّن دوله وقاوم مشاريع الاختراق، ثم بذهاب ريح سليماني الذي قضى بطائرة درون أميركية.

سبقت الدرون الأميركية سليماني وكان على أهبة تنفيذ خطط لتصعيد “حملة العنف” ضد الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، حسب ما اتفقت عليه المعلومات الاستخباراتية القطعية لدى الدول المعنية، بمعنى أن سليماني كان عازما على المواصلة في هذا المشوار العبثي، والواقع أن إيران كلها، بسليمانها ومرشدها وفيلقها وأذرعها وزبائنها لم تكن مستعدة للتوقف، وأن المواجهة كانت حتمية لوقف نزيف المنطقة وإعادة تركيب الهدوء والاستقرار في هياكلها وجغرافيتها.

ولذا كانت درجة التنسيق عالية على هذا الأساس بين واشنطن وبقية العواصم العربية المهمة في المنطقة، وكانت وتيرة المهاتفات مرتفعة بين قيادات أميركية من جهة، وبين العاهل السعودي ونائبه وولي عهد أبوظبي وسواهم، في محاولة لتطويق أي تبعات محتملة لمقتل سليماني واستثمار مستوى الضغط الحرج على طهران في دفعها للقبول بتسوية ضرورية تستهدف ثنيها عن قرار المواصلة في هذا الطريق الظلامي الذي سيورد المنطقة في مزالق ومهالك غامضة ومجهولة تُضاف إلى ما ترزح فيه الآن من الفوضى وغياب الاستقرار.

في الوقت الذي كانت فيه الرياض وأبوظبي تدأب في لعب دورها المفيد من جهة ضمان استقرار المنطقة وتجنيبها أي أخطار محتملة، كانت قطر تتقلب على جمر خياراتها المتناقضة. تحسست الدوحة رقبتها خشية أن تستهدفها إيران وترد على مقتل زعيمها الميليشياوي بالهجوم على القواعد الأميركية الرابضة في قطر، في ظل تقارير عن أن طائرة الاغتيال انطلقت من قطر.

وفي حين هبطت طائرة وزير خارجية قطر الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني في إيران لتبرئة النفس وتدارك رد فعل طهران، كانت فضائية الجزيرة القطرية تعمّق هذا التناقض بسردية تلمّع القائد الميليشياوي وتهاجم واشنطن وتحرض على قواعدها وتستضيف وجوها محبذة لدى مناصري ما يزعم بأنه محور المقاومة، في محاولة لامتصاص غضب الجماهير الموالية لإيران ورفع الحرج عن الدوحة وازدواجيتها، والتغطية على عجزها وتناقضها وورطتها في الرقص على حافة الهاوية.

المنطقة مقبلة على الكثير من التحولات والتبعات، ومحاولات الدول المركزية مستمرة لتطويق الأزمة وخفض التصعيد وتجنب أي آثار مدمرة سيدفع ثمنها الجميع، في ظل رصد تحركات إيرانية لاستهداف المصالح الأميركية في منطقة الخليج، ومنها قاعدة عين الأسد في العراق وقاعدة العديد في قطر، ومصالح الولايات المتحدة في الكويت.

وأشارت أحدث المعلومات الاستخبارية إلى أن إيران حركت عرباتها الصاروخية باتجاه هذه المواقع، وأن هذا التهديد رغم وجوده منذ أشهر إلا أنه تصاعد الآن، كما نقل المسؤولون الأميركيون للكونغرس قلق الشركاء الخليجيين من الانتقام الإيراني. وجاء بيان السعودية بشأن الأحداث في العراق تأكيدا على نظرة الرياض لأهمية التهدئة لتجنيب دول المنطقة وشعوبها مخاطر أي تصعيد كما ذكر وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير.

كما شدد وزير الدولة للشؤون الخارجية في الإمارات أنور قرقاش على أنه وفي ظل التطورات الإقليمية المتسارعة لا بد من تغليب الحكمة والاتزان، وتغليب الحلول السياسية على المواجهة والتصعيد، وأن القضايا التي تواجهها المنطقة معقدة ومتراكمة وتعاني من فقدان الثقة بين الأطراف، والتعامل العقلاني يتطلب مقاربة هادئة وخالية من الانفعال.

وعلى نفس الأساس قامت البحرين بدعوة شعبها الذي كان أكثر المتضررين من انتهاكات سليماني، إلى الكف عن تبني أي موقف أو إبداء تصرف قد يزيد من توتر المنطقة ويدفع البلد إلى مسارات غير مضمونة، واستدعت الداخلية البحرينية عددا من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي على خلفية منشوراتهم التي قد تعد مساسا بالأمن العام.

ولعل الكويت التي تقف على فوهة بركان أكثر من تحثه الظروف المحتقنة على بذل الجهود للتهدئة وخفض التوتر في المنطقة، وتحصين البلاد من أي آثار منتظرة لهذا الصدام المتوقع، بالإضافة إلى واجباتها الخارجية، فهي معنية بمعالجة مواقف داخلية بدت مربكة وغير مفهومة من بعض النواب والناشطين المحليين في تبني أطروحات وآراء قد تزيد من توتر المشهد، وتقحم البلد في مآزق هي بغنى عنها، برجاء أن ترجح كفة الحكمة المعهودة من أميرها وفعالية أجهزتها تطويق المشهد ومنع أي انفلات محتمل.

نال سليماني عقوبة يستحقها وذاكرة المنطقة محملة بأعباء انتهاكاته ومرارات أفعاله الشائنة، أفعال لم يسلم منها بنو جلدته، بخسارة 1500 إيراني أرواحهم في غضون أسبوعين فقط من المظاهرات السلمية التي انطلقت في المدن والنواحي الإيرانية لتقول للحكومة كفى تورطا في الخارج وفشلا في الداخل، فضلا عن سيرة فاسدة اقترفها سليماني في الدول المحيطة، ولعل جولته الأخيرة قبل اغتياله بتنقله من بيروت إلى بغداد مرورا بدمشق، كانت مؤشرا على حجم اختراقه للواقع العربي وعبثه باستقرار الدول وتقويضه لأمن شعوبها وسيادة دولها ومصير أجيالها.

لقد دفع سليماني ثمن تجاوزه للخطوط الحمراء الأميركية، في ظل رئيس أميركي يخشى أن تلاحقه لعنة سلفه باراك أوباما الذي تغاضى عن تجاوزات إيران أكثر مما تحتمل دولة ذات كبرياء مثل الولايات المتحدة، وقد توهم سليماني والمنفعلون بكاريزميته أن الأرض انبسطت لهم دون مراعاة لمسّ ذيل المارد الأميركي، ولكنه وقع في سوء التقدير والتقطته طائرة مسيرة على حين غرّة.

سيكون اليمن واحدا من المواقع التي ستصلها تأثيرات التحولات الراهنة في المنطقة، لاسيما وأن ميليشيا الحوثي جزء من هياكل سليماني المرتهنة بأمره والمذعنة لسياساته، وقد اشترك زعماؤها في بروباغندا الثأر الإعلامي من “الشيطان الأكبر”.

وعلى الحوثي أن يدرك ما يقاسيه رعاته اليوم في إيران، بتقلص دورها وتفسخ مشروعها بعد أن خنقتها العقوبات داخليا، وتعرضها للقصف الإسرائيلي أسبوعيا في سوريا، وانتفاضة الشعوب العربية ضدها في لبنان والعراق، وخسارة رموزها الميليشياوية بضغطة زر على درون متجولة.

إن إصرار الحوثي على الاستمرار في الانضواء تحت الأجندة الإيرانية والالتزام بتعليمات فيلق القدس، سيكون خيارا مدمرا وسيكلفه قرارا حاسما اتخذ لاستهداف قادة الميليشيا المعطلين للحل السياسي ومقراتهم ومصالحهم في اليمن، بفضل منظومات الرصد والاستهداف ذات الإمكانيات العالية التي تم إدخالها، ونشر أسراب طائرات مقاتلة لدول صديقة، ورادارات ودفاعات جوية وأسلحة حديثة، في إطار الحرب الشاملة لوقف عبث إيران والحد من سلوكها التخريبي، الذي بدأ الآن يتخذ مسارا جادا لا يمكن أن يتوقف.