إبراهيم أبو عواد يكتب لـ(اليوم الثامن):

الحرية سلاح ذو حدين

1

     تُمثِّل القُدرةُ على صناعة التاريخ امتحانًا حقيقيًّا للإنسان ، في رحلته داخل نفْسه وخارجها . وهذا الامتحان لا يقوم على ثنائية ( الأسئلة / الأجوبة ) ، وإنما يقوم على ثنائية ( الصُّمود / التَّكَيُّف ) ، إذ إن وُجود الإنسان الفِعْلي والفَعَّال لا يتكرَّس في بنية العلاقات الاجتماعية ، إلا إذا صَمد الإنسانُ في وجه التحديات المصيرية ، ونجح في تجاوزها ، وتَكَيَّفَ معها . وهذا التَّكَيُّف لا يعني الذوبان فيها ، ولا الاستسلام لها ، بَل يَعني العمل المتواصل لإيجاد حُلول للمشكلات الفردية والجماعية،لأن المشكلات جُزء مِن تركيبة المجتمع الإنساني ، وهي دليل على حياة المجتمع وحيويته ، وسَعْيه إلى العمل الدؤوب، وصناعة الإنجازات،والتَّقَدُّم إلى الأمام . ووجود الأخطاء طبيعي ومُتَوَقَّع ، لأن كُل مَن يَعْمَل مُعرَّض للخطأ ، ومَن لا يَعمل لا يُخطِئ . ووجودُ المرض ومُقاومته دليلان على حياة الإنسان وإرادته وإصراره ، والميت _ وَحْدَه _ لا يُصاب بالمرض ولا يُقَاوِم . والباحث عن مجتمع بلا مشكلات ، كالباحث عن حياة بلا مَوت .

2

     رحلة الإنسان في هذا الوجود عبارة عن حركة تصحيحية مُتواصلة ، تهدف إلى تصحيح الأخطاء ، وتدارُك ما فات ، وإنقاذ ما يُمكن إنقاذه . ولَن يَنجح الإنسانُ في صناعة التاريخ إلا إذا تحرَّر مِن الخَوف . وأكبر خطر يُهدِّد الإنجازَ البشري والتقدُّم الحضاري ، هو ترك العَمل خَوفًا مِن ارتكاب الخطأ ، والوقوف على الحِياد خَوْفًا مِن لَوم الناس وعِتابهم ، وعدم أخذ زِمام المُبادرة خَوفًا مِن رَدَّة فِعل المُجتمع. وهذه الرَّهبة المُتجذرة في نفوس الكثيرين ، تُحطِّم المَواهبَ ، وتَقتل الإبداعَ ، وتَجعل الإنسان مَيتًا في الحياة ، بلا هُوية مستقلة ولا شخصية اعتبارية . وبسبب الخَوف ، والتفكيرِ في أحكام المُجتمع المُسبقة ، وعدمِ الثِّقة بالنَّفْس ، يتحوَّل الإنسانُ إلى شبح فارغ ، وظِل باهت ، وتابع مكسور ، وجُزء مَنسي في المجموع الكُلِّي ، بلا أحلام ولا آمال . وعِندئذ ، يَخسر المجتمعُ مواهبَ أبنائه الإبداعية وطاقاتهم الهائلة . وكثير مِن الناس لَدَيهم وجهات نظر خاصَّة ، وكلام تحليلي للأحداث ، وبُنى فلسفية عميقة ، ومعَ هذا ، يَلُوذون بالصَّمْت ، ويَدفِنون كلامَهم في قلوبهم ، خَوْفًا مِن نَظرة المجتمع ، أو رَدَّة فِعل الآخرين ( السُّخرية ، الاستهزاء ، التَّوبيخ ) . ومَواهبهم الذاتية وإمكانياتهم الشخصية تُؤهِّلهم أن يَكونوا قادةً للرَّأي في المُجتمع الإنساني ، ومعَ هذا يَقبلون بدور الكومبارس ، والتابع لإفرازات العَقل الجَمعي ، والخاضع للأفكار الشَّعبوية التي تَمَّ ترسيخها كمُسلَّمات ، بفِعل ضَغط الجماهير ، وهَيَجَان الرأي العام ، وليس بفِعل الدليل الصحيح ، والمَنطق السديد . وسُلوك الجماعة بلا تفكير ولا تخطيط يُجذِّر سياسةَ القطيع في المجتمع الإنساني ، ويَقوده إلى الهاوية السحيقة ، لأنَّه أغفلَ الحُجَجَ والبراهين ، واعتمدَ على الأفكار الشَّعبوية العاطفية ، والمشاعر الجماهيرية الحماسية . والرَّأي الصحيح يُؤخَذ بالحُجَّة القوية ، وليس بالأغلبية . وعلى الإنسان أن يثق بنفْسه وإمكانياته ، ويَمتلك الشجاعة للتعبير عن آرائه بشكل هادئ وعِلمي ومنطقي ، لأنَّه الخَوف سيقتله مِن الداخل ، ويَجعله كيانًا مُفرغًا مِن الحُلم والإبداع والإنجاز ، وهذه العملية بداية الانهيار والنهاية ، لأن الكيان الإنساني الفارغ سيسقط ، كما تَسقط العمارة المُفرغة من الهواء بفِعل الضغط الخارجي . وكما قال الزعيم الهندي غاندي : (( في البداية ، يَتجاهلونك ، ثُم يَسخرون مِنك ، ثُم يُحاربونك ، ثُم تنتصر ! )) .

3

     الذكاءُ الاجتماعي على الصعيدَيْن الفردي والجماعي يقوم على ثلاثة أركان : أ_ الذهاب إلى أبعد نُقطة بأقل تكلفة . ب_ التأقلم مَعَ الظروف الصعبة ، وتَطويعها ، وتحويلها مِن مِحْنة إلى مِنْحة . ج _ الإمساك بطَرف الخَيط مَهْما كانت التهديدات والضغوطات ، لأن التَشَبُّث بطرف الخَيط يعني أن الإنسان على الطريق الصحيح ، وسيصل إذا واصلَ المشي ، مهما كان بطيئًا وضعيفًا . ولكن فقدان طَرف الخَيط يَعني خسارة الطريق ، وضياع الإنسان في متاهة . ولا فائدة مِن التقدُّم ، والمشي بسرعة ، وصَهر المراحل ، إذا كان الطريقُ خاطئًا ، كما أنَّه لا فائدة مِن سُرعة القِطار إذا كان في الاتِّجاه الخاطئ .

4

     عندما يصل المجتمعُ الإنساني إلى الحضيض ، ويغيب اليقين ، وينتشر الشَّك ، وتزول الثِّقة بالنَّفْس ، ويُصبح الشُّركاء في الوطن أعداء ، وتصير مؤسسات الوطن عِبئًا ثقيلًا على المواطنين، تُصاب الجماهيرُ بالعَمى الأيديولوجي ، وتفقد القُدرة على التمييز ، وتتكرَّس سياسةُ القطيع كحالة نهائية للخلاص الوهمي ، ويَؤول العقلُ الجَمعي إلى عواطف غير منطقية ، وإفرازات اجتماعية مَهووسة ، وتُصبح الحُرِّيةُ خطرًا على الناس ، لأن الحُرِّية مسؤولية ، وإذا عَجِزَ الإنسانُ عن تحمُّل المسؤولية ، ولم يَستطع تقدير قيمة الحُرِّية ، ولم يَقدر على استخدامها في المجال الصحيح ، سوف يُؤذي نَفْسَه ، ويضرُّها بدلًا مِن أن يَنفعها . والأمرُ يُشبه إعطاء طِفل سِكِّينًا كَي يَقطع تُفاحة ويأكلها. إن هذه العملية تهديد لحياة الطفل، ولَيست حِرصًا على تغذيته وتَقوية جِسمه . وينبغي أن نعرف أن الزعيم النازي أدولف هتلر وَصَلَ إلى السُّلطة بانتخابات ديمقراطية حُرَّة ونزيهة ، وفقًا لقواعد السُّلوك الانتخابي ، ولم يجئ بانقلاب عسكري ، ولم يَسفك قطرة دم واحدة في طريقه إلى الحُكم .

ولكن النتيجة كانت كارثية ، ومعروفة للجميع . وهذا يعني أن الجماهير التي منحته أصواتها الانتخابية كانت في حالة غرق ، والغريق يتعلَّق بِقَشَّة ، أو يتعلَّق بحبال الهواء . صحيحٌ أن هذه حالة نادرة ، والنادر لا حُكم له ، ولكن حُدوث شيء مَرَّة واحدة على أرض الواقع ، يَعني أن احتمالية تَكراره واردة . وكُل إنسان لا يَعرف قيمةَ النِّعمة سيجعلها نِقمةً، وتَكون وَبالًا عليه. والشعوبُ التي لا تَعرف معنى الحُرِّية، سوف تستخدمها لذبح نفْسها.

وهذا ليس دفاعًا عن الاستبداد ، أو دَعْمًا للطغاة ، ولكن ينبغي معرفة أن الحُرِّية مُمارسة تعليمية تدريجية جماعية، ولَيست قفزة في المَجهول، أو انتقالًا مِن الوجود إلى العدم ، أو تفكيكًا لمؤسسات الدولة ، أو تدميرًا للمُنجزات الوطنية الحضارية ، أو إضاعةً لحاضر الشعوب ومُستقبلهم .

ومَن أرادَ تعلُّم السباحةَ ، عليه أن يَذهب برفقة مُدرِّب إلى بركة ماء صغيرة ، ولا يَذهب إلى البحر وحيدًا ، لأنَّه سيغرق حَتْمًا . والحُرِّيةُ شُعلة نار ، قد تُنير طريقَ الإنسان في الظلام ، وتُوصله إلى أهدافه وأحلامه ، وتَجلب له الدفء ، وتُوفِّر له الحماية مِن الأعداء. وفي نَفْس الوقت، قد تُنهي حياةَ الإنسان، وتحرق الأخضرَ واليابس، وتَجعل الحياةَ جحيمًا لا يُطاق .