ماجد كيالي يكتب:

أسباب جمود الخارطة السياسية الفلسطينية

تبدو الخارطة السياسية الفلسطينية عصية على التغيير أو التجديد أو التطور. فمعظم الفصائل بات لها من العمر أكثر من نصف قرن. وثمة زعيمان، هما نايف حواتمة الأمين العام للجبهة الديمقراطية وأحمد جبريل الأمين العام للجبهة الشعبية القيادة العامة، لهما في ذلك المنصب أزيد من نصف قرن. وحتى حركة حماس، التي تأسست عام 1987 مع اندلاع الانتفاضة الأولى، فهي كانت نشأت قبل ذلك بعقود، أي قبل انتهاجها الكفاح المسلح، تبعا لكونها بمثابة امتداد طبيعي لحركة الإخوان المسلمين في فلسطين.

معلوم أن الفصائل الفلسطينية، على ضعف فاعليتها وانحسار تمثيلها وترهّلها، تضم أكثر من عشرين فصيلا سياسيا، بين حركات وجبهات وأحزاب. ثمة حركات فتح وحماس والجهاد الإسلامي (وضمن ذلك حركة فتح الانتفاضة). ومن الجبهات ثمة “الشعبية” و”الديمقراطية” و”القيادة العامة” و”النضال الشعبي” و”التحرير الفلسطينية” “والعربية”، ناهيك عن انقسام بعضها بين الداخل والخارج!

ومن الأحزاب ثمة حزب “الشعب” و”فدا” و”الشيوعي الثوري”. وإلى جانب كل ما تقدم ثمة “طلائع حرب التحرير الشعبية ـ قوات الصاعقة” (للتذكير!). وفي الضفة والقطاع فقط، وعلى خلفية الانتخابات التشريعية السابقة في 2006، ظهرت كتل انتخابية من خارج الفصائل، مثل كتلة الطريق الثالث (سلام فياض وحنان عشراوي) والمبادرة الوطنية (مصطفى البرغوثي وراوية الشوا)؛ طبعا دون أن نتحدث عن العديد مما بات يعرف بمنظمات المجتمع المدني، التي يزخر بها المجتمع الفلسطيني في الضفة وغزة.

هذا الواقع يشمل أيضا، القوى السياسية التي تمثل فلسطينيي 48، فالحديث هنا يدور عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، التي هي امتداد أو إطار جبهوي للحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكح) والحركة الإسلامية والحركة العربية للتغيير (بزعامة أحمد الطيبي) إضافة إلى التجمع الوطني الديمقراطي وهو أحدث تلك القوى حيث تأسس قبل ربع قرن. وتشكل تلك المكونات الأربعة القائمة العربية المشتركة لانتخابات الكنيست، إلا أن تحالفها لا يشتغل، في الأغلب سوى وقت الانتخابات.

قد يرى البعض في الواقع المذكور دليلا على صمود الحركة الوطنية الفلسطينية، بفصائلها تلك، وقد يرى آخرون في ذلك دليلا على التعددية السياسية والفكرية وتأكيدا على الحيوية الحزبية والسياسية عند الفلسطينيين. لكن الأمر ليس على هذا النحو إطلاقاً، فهذا الواقع دليل تكلس وعطالة في الحركة الوطنية الفلسطينية. ويجدر التعامل معه بوصفه ظاهرة مرضية وتحصيل حاصل لواقع تشظّي المجتمع الفلسطيني وتوزّعه جغرافيا وسياسيا على بلدان وسياسات متضاربة وخضوعه، أيضا، لأنماط مختلفة من السيطرة والتحكم والاستقطاب.

ليس ثمة مبرّر البتة لاستمرار وجود فصائل متماثلة منذ عقود من الزمن ومن كل النواحي، أكثر مما هي متفارقة، كمنظمات اليسار الفلسطيني (الجبهتان الشعبية والديمقراطية وحزبا الشعب وفدا) حتى لو كان ثمة بعض الاختلافات في وجهات النظر.

وإذا انتقلنا إلى الجبهات الأخرى (القيادة العامة والنضال الشعبي والتحرير الفلسطينية والصاعقة وفتح الانتفاضة وجبهات النضال والتحرير)، وهي من الإطارات المحسوبة على المعارضة، فبالكاد يمكن ملاحظة فوارق أو خلافات سياسية تبرّر افتراقها. لا أحد يعرف الفارق بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي، فكلتاهما حركتان تنتميان إلى تيار الإسلام السياسي وتناهضان عملية التسوية وتدعوان لاعتماد خيار المقاومة المسلحة.

وفي الداخل أيضا لم تعد ثمة فوارق بين التوجهات السياسية لحركة فتح مع القوى المتحالفة معها مثل فدا وجبهتي التحرير والنضال. والطريف أن ثمة في منظمة التحرير فصيلان متماثلان، باسم “جبهة التحرير العربية” وباسم “جبهة النضال الشعبي”.

يمكن تفسير بقاء أو “صمود” تلك الفصائل وطبقتها المهيمنة، ببقاء القضية الوطنية وتمتّع الفلسطينيين بنصيب أوسع من التسييس، بحكم أوضاعهم، وأيضا حاجتهم الملحة لإطارات سياسية تعبر عنهم وتعوّض حرمانهم من المكون الكياني.

بيد أنه، ومع أهمية كل ما تقدم، ثمة عوامل أساسية أخرى تقف وراء استمرار الحالة الفصائلية، رغم تآكل أو انهيار مشاريعها السياسية. العامل الأول هو نظام “الكوتا” (المحاصصة الفصائلية)، المعتمد في إطار منظمة التحرير، والذي يضمن “شرعية” هذا الفصيل أو ذاك، وحصته في الموارد، برغم ضعف قوته التمثيلية (في نظام لا يعتمد التمثيل) رغم أن العديد من هذه الفصائل لم يعد لها أي دور، لا في مواجهة العدو ولا على صعيد إدارة الوضع الفلسطيني ولا لجهة التمثيل الشعبي (وهو ما أكدته الانتخابات التشريعية لعام 2006).

وينبع العامل الثاني من وجود فصيلين كبيرين أو رئيسين، باتا بمثابة سلطة كل في إقليمه، حيث فتح في الضفة وحماس في غزة. وهذان الفصيلان يستقطب كل منهما فصائل صغيرة إلى جانبه، ناهيك عن أنهما باتا يعملان كسلطة أكثر من عملهما وفق معايير التحرر الوطني.

العامل الثالث ينبع من حيازة قيادة كل فصيل، مهما كان صغيرا، على سلطة في فصيلها، لاسيما في ظل خبو الحياة السياسية الداخلية وافتقاد الفصائل لحياة سياسية ديمقراطية، علما أن تلك الفصائل استمدت قوتها من وجود عدد معين من “المتفرغين”، الذين باتوا بمثابة قاعدة ثابتة لها؛ بغض النظر عن مستوى شعبيتها، وحتى قاعدة عضويتها.

من الواضح أن استمرار وجود العديد من الفصائل بات يشكل ضمانا لاستمرار مصدر عيش أعداد كبيرة من العاملين في الحقل السياسي الفلسطيني، وهو ما يفسر بقاء هذه المنظمات على شكل إطارات مغلقة، حتى لو كانت تفتقر لأي حراكات داخلية أو أي فاعلية وطنية.

العامل الرابع يأتي من التدخل الخارجي، إذ لا يمكن الحديث عن استقلالية الكيانات السياسية الفلسطينية، في ظل اعتماد شرعيتها ونفوذها ومواردها على الخارج، إذ كان للتدخل الخارجي والتوظيفات السياسية الإقليمية على الدوام، دور كبير في بقاء الحالة الفصائلية على حالها، بحكم نشوء العمل الفلسطيني في الخارج وتشتت الفلسطينيين في بلدان عدّة، وأيضا بحكم أن الصراع مع إسرائيل هو مسألة تمس العديد من الأنظمة العربية.

وبناء على ذلك فإن مشكلة العمل الوطني الفلسطيني لا تكمن فقط في إنهاء الانقسام أو في استعادة الشرعية في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، ولا تكمن في تفعيل منظمة التحرير أو انسداد الخيار الفلسطيني المتعلق بإقامة دولة مستقلة في الضفة والقطاع. كما لا تكمن في مواجهة المشاريع الإسرائيلية أو الأميركية وبضمنها صفقة القرن، إنما هي أزمة أعمق وأشمل وأعقد من ذلك، إنها أزمة تتعلق بإعادة التأسيس.