إبراهيم أبو عواد يكتب لـ(اليوم الثامن):
الجرثومة الصغيرة والجرثومة الكبيرة
دَور العقل الجمعي في تأسيس المفاهيم الاجتماعية يُمثِّل جوهرَ السُّلطة الفكرية ذات السيادة المعنوية على إفرازات الحياة اليومية . وهذه الحقيقة تَرجع إلى كَون العقل الجمعي هو المُؤهَّل لتفسير ثقافة الأفراد ، وعلاقاتهم الاجتماعية ، وسلوكياتهم الحياتية النابعة مِن التفاعل مَعَ الأحداث الواقعية والأحلام الخيالية . والعقلُ الجمعي ليس صيغةً مِن قواعد التعامل الاجتماعي الجامدة ، والتعليمات المحفوظة مُسْبَقًا ، وإنَّما هو مِرآة تَعكس درجةَ رُقِيِّ المجتمع روحيًّا وماديًّا . وهذا الرُّقِيُّ قائم على أساس القُدرات العقلية في جمع المعلومات، وفحصها، وإيجاد روابط منطقية بينها، والاستفادة مِنها في التخطيط للحاضر والمُستقبل ، ولا يَقوم الرُّقِيُّ على هَوَس المنظومة الاستهلاكية ، لأن التَّقَدُّم الحقيقي يكمن في صناعة العقل القادر على استخدام العِلم النافع لمنفعة البشرية ، وليس صناعة التَّوَحُّش الاستهلاكي ، وحُمَّى الشِّراء والتَّسَوُّق ، والغرق في المُنتجات المادية للحضارة البشرية ، واستنزاف موارد الطاقة ، وتدمير البيئة والمناخ ، وقتل رُوح الإنسان ، وإرهاق جسده .
2
الوظيفة المركزية للعقل الجمعي في الحضارة ، هي منع التعارض بين المسار والمصير ، لأن الغاية الشريفة يجب أن يكون الطريقُ إلَيها نظيفًا ، والطريق إلى البَيت الجميل يجب أن يكون جميلًا ، لأن الجَمَال مبدأ أساسي مُطْلَق ، لا يتجزَّأ ، ولا يَتغيَّر حَسَب المصالح الشخصية والظروف الاجتماعية. ولا يُوجد عاقل يبني بَيتًا جميلًا في مكان مليء بالقُمامة . وهذا الاتصال الوثيق بين المبدأ والغاية ، يُشير إلى الترابط الوجودي الحتمي بين العقل الجمعي ، باعتباره المُتحدِّث الرسمي باسم ذِكريات الناس وأحلامهم وآمالهم ، وبين الإفرازات الاجتماعية للحياة اليومية. وكما أن الإنسان ابن بيئته ، كذلك العقل ابن بيئته ، ولكنَّ بيئة الإنسان تستمد شرعيتها من الحركة في المجتمع والتعامل معَ الناس ، أمَّا بيئة العقل فتستمد شرعيتها مِن الحركة في الخيال والتعامل معَ الأفكار ، ومُحاولة نقلها إلى المجتمع ، لتغيير حياة الناس إلى الأفضل . وإذا كانت بيئة الإنسان قائمة على التفاعل المادي معَ الأشخاص والأحداث اليومية ، فإن بيئة العقل قائمة على التفاعل الرمزي مع تاريخ الأشخاص المُسْتَتِر ( الذكريات والأحلام والمشاعر ) ، وتاريخِ الأحداث الخَفِيِّ ( الأسباب الحقيقية للسلوكيات الفردية والجماعية) . والفرقُ بين بيئة الإنسان وبيئة العقل يجب أن يكون دافعًا للتكامل ، وليس الصراع . والإنسانُ بلا عقل يتحوَّل إلى وحش شهواني كاسر ، والعقل بلا إنسان يتحوَّل إلى أداة للقتل وتدمير مُنجزات الحضارة. وبالتأكيد، لا تَستطيع أيَّة حضارة _ مهما كانت إنسانية ومُتقدِّمة وراقية _ أن تَمنع الجرائم ، ولكنَّها تستطيع رفض تَبرير الجرائم ، ومَنع إيجاد شرعية لها . ولا يُمكن إيجاد إنسان بلا ذُنوب ، ولكن يُمكن إيجاد إنسان بلا تَوَحُّش . وهذا يعني ضرورة تحقيق الشَّرْط الإنساني في الحياة ، أي أن يكون الإنسانُ إنسانًا حقيقيًّا ، ولا يَكون وحشًا يَرتدي قِناع الإنسان .
3
مِن أجل إيجاد حضارة أكثر إنسانية ورحمة وأخلاقًا ، يجب قتل الوحش النائم في الإنسان ، وتَطهير الحضارة مِن التَّوَحُّش الاستهلاكي الكامن فيها. وهذه المُهمة الصعبة لا يُمكن الوصول إلَيها إلا بتكريس معاني البَذل والعطاء ومُساعدة الآخرين والعمل التَّطَوُّعي ، وتنظيف المَسار الحضاري مِن مفاهيم القهر والنهب والإذلال والأنانية ، وبناء المجد الوهمي على شقاء الآخرين وتعاستهم . وكما أن العَالَم يتوحَّد لمُواجَهة جُرثومة صغيرة تَجعل مصيره على المِحَك، يجب عليه أيضًا أن يتوحَّد لمنع الحضارة مِن التَّحَوُّل إلى جُرثومة كبيرة تُدمِّر حاضرَ البشر ، وتقضي على مُستقبلهم . وكما أن غسل الأيدي مُهم لمنع وُصول الأمراض إلى الجسد ، كذلك غسل القُلوب مُهم لمنع وُصول الأمراض إلى الرُّوح . وإن العاجز عن حماية رُوحه ، سيكون أكثرَ عجزًا عن حماية جسده . ومِن المنطقي أن يُكافح الإنسانُ الأوبئة والأمراض ، ويسعى إلى تطهير الحياة من الجراثيم ، لكن الكارثة عندما يتحول الإنسانُ إلى جُرثومة ضِد أخيه الإنسان ، ويصير وحشًا كاسرًا ضِد المدنية ، وخطرًا حقيقيًّا على الوجود البشري .
4
الحيوان الذي يتصرَّف كحيوان ، يُمارس دَوره المرسوم له بدِقَّة، ويُؤدِّي مهمته في النظام البيئي بكفاءة ونشاط . لكن الإنسان الذي يتصرَّف كحيوان ، يخون إنسانيته ، ويُسيء إلى نفْسه ، وهذا هو السقوط الأخلاقي المُريع ، والانهيار الشامل ، والانتكاسة الصادمة . ولا تُوجد مشكلة في وجود الذئب في الطبيعة ، لكن المشكلة في تَحَوُّل الإنسان إلى ذِئب لأخيه الإنسان .
5
حُب التَّمَلُّك الجُنوني إذا سيطرَ على الإنسان، قاده إلى ارتكاب الجرائم وافتعال الحروب بكافة أشكالها . ومُحاولة الاستحواذ على كل شيء ، وعدم الاعتراف بحقوق الآخرين وأحلامهم المشروعة، يُؤَدِّيان إلى انتشار القتل العبثي ، والحروب التي لا تنتهي . وهذا سيكون على حساب الإنسان والحضارة والمناخ. وإن الموتى الذين يتحركون على ظَهْر الأرض هُم الخطر الحقيقي على الحياة ، وليس الموتى في بطن الأرض . ومَوْتُ القُلوب هو الانتحار التدريجي الذي يَجعل الإنسانَ كيانًا فارغًا ، بلا مشاعر ولا أحاسيس ولا إنسانية . وسيظل مَوْتُ الإنسان في الحياة هو التَّحَدِّي الأبرز في الوُجود ، والامتحان الحقيقي لضمير الحضارة .