د. كمال الطويل يكتب:
في جذور العلاقة الأميركية ــ الاسرائيلية
عسير على السمع أن ترتطم الأذن بتردد ناشز عن معتادها، يعيد زيارة دهاليزها, زواياً وتعرجات, على وقع إيقاعٍ يصل الجِدّة المكتسبة, بالوقائع المشهودة .. بوتر من مسد، ولتكون حصيلة الأمر قراءة مستنيرة لا تشرح ما جرى فحسب بل وتعين في فهم الجاري، لا بل وتطلّ على استيلاد الآتي من رحمه.
الحديث هو عن ماهية العلاقة بين أمريكا ومشروع اليشوف الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وصولاً إلى قيام الكيان الاسرائيلي، ثم إلى اعتماده حليفاً كامل الأوصاف .. ولماذا وكيف.
كانت أمريكا المجتمع، في ثلاثينات وأربعينات بل وخمسينات العشرين، ذات ثقافة مسيحية لم تختلط بأمشاجها بعدُ التأثيرات اليهودية، والتي لبثت إلى ما بعد ٦٧ كي تدعى "الثقافة المسيحية اليهودية". كان هناك نوع من تمييز ديني/اثني ضد اليهود, تجلى ليس حسب في تقييدات الهجرة المتعددة, بل وفي أشكال التمييز الإجتماعي التقليدية, في أماكن الدراسة والعمل والخدمات, وفي تجاهل نتائج المحرقة النازية النسبي طيلة سنوات الحرب الثانية (بسبب تركيز روزفلت على الانتصار في الحرب, لا سواه, وكما بدا في فرض حصار الجيش الأمريكي على معسكرات الاعتقال النازية).
ومع انتهاء الحرب, حل التفجع محلّ التجاهل, ليرشح معه في نسيج المجتمع وخلاياه الحية, رويداً رويداً, شعور أن النفور- الديني الجذر - لا ينبغي أن يحجب تقبل "الآخر" اليهودي, سيما وإسهامه في حقول الإبداع والعلم والخدمة ملحوظ, وباعتبار المحنة الكبرى التي عاشها بنوه في أوربا للتو. كان انخراط الولايات المتحدة في الحرب الثانية ذاته لحظة الإنبعاث الكبير لحركة الصهيونية اليهودية الأمريكية, بدءاً من مؤتمر بيلتمور بنيوورك بعد ستة شهور فقط من بيرل هاربر, وانصب تركيز الحركة على تمكين إقامة كيان يهودي في فلسطين, عبر تيسير هجرة يهود أوربا اليها, وهو ما استدعي دوراً أمريكياً فاعلاً يحيّد أي عائق في الطريق, أكان تحفظاً بريطانياً أم معارضة عربية أم سواهما.
كان أقوى مثال على نفوذ جماعة الضغط الصهيونية هو نجاحها في تسخير هاري ترومان, عام1946 , للضغط على بريطانيا كي تتيح هجرة 100 ألف يهودي الى فلسطين- الانتداب. ما بين عامي 45 و 47 اعتنق ترومان فكرة إنشاء دولة ثنائية القومية في فلسطين, لكن جماعة الضغط تلك نجحت, ثانيةً, في تطويعه لمطلبها: دولة يهودية في فلسطين, ونقطة. عامها, 47, كان شعور العطف بين "النخب" قد مكّن الجماعة تلك من "إقناع" ترومان بدعم مطلبها, فكان قرار التقسيم في 29 نوفمبر 1947. والحال أن ترومان قد احتفظ بتحفظه على التقسيم, كما ردد مراراً في أحاديثه الخاصة, مشيراً إلى نفوذ سياسي زائد للجماعة.
نالت كل من مسألتي الهجرة والتقسيم معارضة "دولة الأمن القومي", بقناعة أن كياناً يهودياً في فلسطين مشروع مستحيل في ضوء رفض عربي تام له, داخل وحول فلسطين بل وأبعد, وأن مصالح الولايات المتحدة المتسعة في الإقليم ستكون من بين ضحاياه.
ورغم اجتياح فورة النخب العاطفية, ممثلاً في نجاحها بتمرير قرار التقسيم (لافت هنا أن الضغوط على وفود دول العالم الثالث مارستها في الأساس نخب أمريكية غير رسمية – مثال مدير فايرستون -), إلا أن جملة حوادث ومواقف حفلت بها تلك الآونة, والشهور الستة اللاحقة لها, كان أهمها إقالة دولة الأمن القومي نفسها من عثرتها بأن دعت الى حوار البنتاغون, خريف47, بين رجالاتها وبين نظرائهم في الدولة البريطانية العميقة. كان الاعتراض على قرار التقسيم سائداً, لكن مغالبته للتو عسيرة .. ومن ثم التريث لحين, ثم العودة لمقاربته بالتجاهل والانطلاق الى بدائل.
جملة إضاءات هادية تنفع هنا في جلو غشاوة الصورة:
1- ليس صحيحاً أن واشنجتن قد ابتغت طرد بريطانيا من "الشرق الأوسط" في أعقاب الحرب الثانية .. هي قبلها وبعدها قاومت ومنعت مخططاتها للسيطرة على الشمال العربي: مشروعا سوريا الكبرى والهلال الخصيب, وتلاكمت معها بالنقاط في سوريا: انقلاب لأجل هذه يتلوه انقلاب لصالح تلك .. ثم في الأردن: طرد غلوب باشا ؛؛ كل هذا صحيح, لكن ما كان مقبولاً - لا بل مرغوباً - هو دور بريطاني متسق ومسقوف. ما الذي عناه ذلك في 47 وما تلاها؟ عنى أن تبقى القوات البريطانية في فلسطين, لا أن تلحق بالتي سحبت قبلاً من الهند .. وبذا تمنع نشوء كيان يهودي في فلسطين. المهم أن ذلك كان مخالفاً لقرار حكومة حزب العمال الانسحاب من فلسطين منتصف مايو/أيار 1948.
2- كان للجنرال جورج مارشال, وزير الخارجية, مؤيداً بجيمس فورستال, وزير الدفاع, دور قيادة الجهد الأمريكي في إعادة التقييم ومحاولة قلب المائدة .. تكثف ذلك في رعايته مشروع قرار أمريكي يصدر عن مجلس الأمن وينص على طي قرار الجمعية العامة للتقسيم وفرض انتداب دولي على فلسطين عبر مجلس الوصاية الدولي. كان ذلك في مارس/آذار 1848. هبت الجماعة والنخب برأس رمحها, كلارك كليفورد مستشار الرئيس, لثني ترومان عن إسناد مارشال .. وفازت. شابه ذلك في لندن إصرار حكومة العمال على إنسحاب قواتها من فلسطين في موعده. وبرغم صهيونيتها إلا أن ذلك لم يعفها من سخط إرهاب اليمين اليهودي الذي حاول اغتيال كليمنت ايتلي وارنست بيفن لكونهما قد أفاقا على مخاطر تبني المشروع الاسرائيلي وفق هوى أصحابه.
3- وعليه, فقد اعترف ترومان ب"دولة" اسرائيل اعترافاً واقعياً في اللحظات الأولى لإعلانها, في 14 مايو 48, لكن ما يستحق الذكر أنه اعترف, كما ظهر على ورقة الاعتراف, ب"حكومة مؤقتة" لا ب"الدولة".. أمرٌ انتظر حتى هدَن 49 وقبول عضوية اسرائيل في الأمم المتحدة.
4- كانت المواجهات المسلحة بين الجهاد المقدس والهاغانا قد صارت ناموس الحال عبر الشهور الأولى من 48, وبتفوق تكتيكي حاد للثانية. وعلى خلفية أن طبيعة العلاقة بين القوات البريطانية وبين الهاغانا كانت قد وصلت الى الحضيض ما بين أعوام 45 و 47 بفعل أعمال حرب العصابات التي شنتها الثانية على الأولى, كانت الآبار مسمومة عند دخول العام الحاسم: 48. على خلفية ذلك, وفي ضوء رفضها تحول اليشوف الى دولة, فإن عناصر الدولة البريطانية العميقة في المنطقة قامت بإفساح المجال أمام جيش الإنقاذ (قوة لواء) للدخول الآمن الى شمال فلسطين, في يناير 48, وتوفير بعض المعلومات والسلاح له. ولما لمست أن "الإنقاذ" غير منقذ مضت الى تشجيع, بل وحث, دول الجامعة العربية على إدخال جيوشها في الحرب. وخلال فترة 46-48 كان الجنرال كلايتون, مسؤول المخابرات البريطانية في المنطقة, شريكاً رئيساً في اجتماعات الجامعة العربية التي تناولت المسألة الفلسطينية. أسطع دور له كان في إقناع الملك فاروق إرسال جيشه الى فلسطين, وقبل يومين فقط من موعد الانسحاب البريطاني. فتحت قوات القنال البريطانية الطريق فسيحاً أمام تقدم القوات المصرية عبر سيناء, لا بل وتزويدها بالذخيرة والعتاد ووسائط النقل, بأمل أن تتمكن مع شريكاتها العربيات في حسر سيطرة اليشوف الجغرافية الى شريط ساحلي صغير يمتد من جنوب حيفا الى تل أبيب فحسب.
5- كان رضا الدولة العميقة في واشنجتن كاملاً على جهود نظيرتها البريطانية في الميدان. وكان تقييمها أن اليشوف, ولو أنه متوفر على قوة فيلق وفرقة (60-70 ألف مقاتل) عند بداية القتال النظامي لكنه لن يستطيع مواصلة تفوقه العددي ولا النوعي ما إن تتكاثر كالفطر أعداد متطوعين عرب – قدّروها ب200 ألف – تثب الى ساحة القتال مع تطور المعارك. معنى ذلك أن هزيمة الهاغانا كانت محتملة في عرف البنتاغون, وهو سبب مضاف جعل من تبني المشروع الاسرائيلي وقتها ضرب حماقة.
6- تطوران قلبا تقييم البنتاغون أعلاه رأساً على عقب: غياب ال200 ألف متطوع عربي, وتبني ستالين لتسليح الهاغانا (دون إغفال دور مهم – وإن أقل وزناً – لإرساليات سلاح ومتطوعين أتت من يهود الغرب, سيما الأمريكي). أبدأ بستالين: حسَب أخينا وطرَح فوجد أن اليشوف, الروسي/الشرق أوربي في تكوينه, والذي قاتل الجيش البريطاني لعامين ونيف, والمعتنق فكراً يساري الطابع, يمكن له أن يكون قاعدة متقدمة للسوفييت شرق المتوسط, بالرغم من صهيونيته. في المقابل, فالرسميات العربية تقبع داخل الجيبات البريطانية, من صغيرها إلى كبيرها, والنخبة الفلسطينية تفاعلت مع هتلر في وقته .. وعليه, فلا آصرة معها, لا بل والسعي لضرّها واجب. هل تكفي تلك من أسباب لتفسير تحول ستالين من الدعوة لدولة ثانئية القومية في مايو 47, الى تبني قيام دولة يهودية بعدها بشهور ستة, ثم الى تسليح قواتها بكل ما احتاجته .. بعد ستة شهور إضافية ؟؟ هذا الافتجاء وتلك السرعة, معطوفة على ازواره السريع عن حميمية التبني بعد عامين فقط, يشون بسبب نوعي مضاف. يثور سؤال, لا برهان عليه أو ضده بعد: هل عقدت موسكو صفقة مع اليهودية الأمريكية, صيف 47, تسلمت بموجبه أسرار القنبلة الذرية لقاء تبنيها إقامة ودعم اسرائيل .. فلما فجّرت قنبلتها الأولى قضت وطرها ومضت ؟؟. لافتٌ كيف عوملت السفيرة الاسرائيلية الأولى لموسكو, غولدا مائير, بخشونة عندما اكتشف عام 49 نسجُها صلات خارج المألوف مع نخب يهودية بغرض تنظيمها صهيونياً, كان بينها زوجة مولوتوف التي عزلت وسجنت. بدت اسرائيل موسكوبياً, عند بداية العشرية السادسة للعشرين, وكأنها فعل ماضٍ, لا مضارع.
7- لحظ البنتاغون أداء الهاجانا البارز (اللهم إلا في القدس القديمة التي هزمها فيها وطردها منها الجيش الأردني) طيلة شهور الحرب السبعة, وكيف نمت عدداً الى 110 ألف مقاتل, وتوسعت جغرافياً من مساحة ال54%, الممنوحة لها بقرار تقسيم الأمم المتحدة, الى 78% مع نهاية 48. لقد وصل الحال في الجنوب أن اخترقت الهاغانا القطاع الشمالي من سيناء واصلة الى العريش عند مفصل ديسمبر 48/يناير 49, مطوّقةً قوات الساحل المصرية (شيء شبيه بحال الجيش الثالث- 73) بالكامل. ولولا إنجاد ترومان لفاروق المستغيث به لكان حجم الهزيمة أفدح وأذلّ.
8- كان استنتاج دولة الأمن القومي أن المشروع الاسرائيلي قد نجح في الاختبار, ويستحق الرعاية, لكن حجم المصالح الأمريكية عند العرب ما زال وازناً لحدّ إعاقة تبنيه حليفاً أو شريكاً .. بعد. من هنا نأي واشنجتن عن تزويد اسرائيل بالسلاح ما بين 49 و 62, ثم تسليحها بالقطعة - أو بالواسطة: ألمانيا الغربية مثالاً - ما بين 62 و64, ثم الكرم الصريح فترة 65-67 .. ثم الانهمار عليها بالغالي والثمين منذ 67. توازى ذلك مع ارتفاع مقدار المشروع الاسرائيلي, والحاجة إليه, في عُرف واشنجتن. في المقابل, أذنت واشنجتن لفرنسا أن تكون مورد السلاح الرئيس ل"تساحل" بعد إقامة اسرائيل, وهو ما تواصل حتى حربها في 67. لا بل صارت تصدر تصريحات غربية, أهمها أمريكية, بدأت خافتة ثم تناسلت علناً, تردد: نلتزم بضمان التوازن التسليحي بين اسرائيل والدول العربية .. كل الدول العربية.
9- ومع انزواء موسكو عن "طلب القرب" من اسرائيل, مطالع الخمسينات, صارت الأخيرة مسؤولية ورصيداً غربيين. بداية التبني كان أمر واشنجتن لألمانيا الغربية, عام 52, بتزويد اسرائيل ببلايين الماركات, تعويضاً عن "المحرقة", ولتكون مدداً لا ينقطع لدزينة أعوام. ثم صار اهتمام واشنجتن منصباً على "تطبيع" وضع الكيان الجديد وسط منطقته, أي عقد الصلح بينه وبين العرب. كان ذلك شرطاً رئيساً لجون فوستر دالاس على عبدالناصر, لمّا قابله في القاهرة في مايو 53, لقاء عونه على إجلاء القوات البريطانية عن قاعدة القنال, وتزويد جيشه بالسلاح, وتمويل مشروع السد العالي. ناور عبدالناصر بالطول والعرض كي لا يخسر ضغط واشنجتن على لندن كي تنهي احتلالها للقنال, وبأمل نيل السلاح الموعود والسد المرتجى, فماشى محاولات الوساطة الأمريكية متمسكاً بشرطين: تنفيذ قراري 181 للتقسيم و 194 لعودة اللاجئين. وفيما السعي جارٍ, كان هناك ممانعون له, وبضراوة. كان ايزنهاور قد اضطر بن غوريون أن يستقيل من رئاسة الحكومة الاسرائيلية في أعقاب غارة قبية/الضفة الغربية, في اكتوبر 53. حلّ الحمائمي موشي شاريت محلّ الصقر المعتزل/المعزول, وكان تولّيه غب الطلب لمسعى الصلح. لكن المؤسسة العسكرية-الأمنية في اسرائيل, الخاضعة لنبيّها بن غوريون, المنكفئ – ظاهراً - في مستوطنة سيدي بوكر في النقب, كان لها رأي آخر: أن الصلح مبتسر ومبكّر, وينبغي له أن ينتظر حتى يشتد ساعد الكيان ويكون أقل اضطراراً لتقديم التنازلات المطلوبة. ارتكبت جماعته حماقة عمرها صيف 54 حين أقدم جواسيسها – من "أمان"/المخابرات العسكرية – على محاولة تفجير منشآت أمريكية وبريطانية في مصر, أملاً بتخريب العلاقات المصرية الغربية. سميت تلك بفضيحة لافون. لم يكتف الصقور بذلك, بل ضاعفوا جهد الإعاقة بشن تساحل غارة كبيرة على موقع عسكري مصري في غزة, في 28 شباط 1955. سبق ذلك بأسابيع عودة بن غوريون من معتزله, وزيراً للدفاع. وبتشجيع من نظراءَ صقور داخل مجمع المخابرات الأمريكي: تحديداً, جيمس جيسوَس انغلتون (مدير قسم مكافحة التجسس, الصهيوني), تمكن صقور اسرائيل من إيقاف مساعي الصلح الأمريكية, ثم عزل خصومهم الحمائم بإقالة وزارة موشي شاريت في حزيران 56, وتولي بن غوريون رئاسة الحكومة من جديد.
10- وبرغم انزعاج واشنجتن الفائق من تواطؤ اسرائيل مع بريطانيا وفرنسا, في حرب السويس, والذي وصل حد إجبارها على الانسحاب من سيناء وغزة, في مارس/آذار 57, إلا أن من تأثيرات الحرب تلك على تفكيرها كان إعجابها بأداء "تساحل" في الأيام الثلاثة الأولى لها. رفع ذلك تقييم البنتاغون لتساحل إلى مرتبة أعلى, وإن بقي بعدُ تحت سقف النأي عن اعتماده حليفاً جونيور .. لذات الأسباب السالفة.
11- كانت سنوات الانفراج في العلاقات العربية-الأمريكية (بين خريفي 58 و 62) معيقاً رئيساً لمزاولة اسرائيل دور رصيد واشنجتن الاستراتيجي اقليمياً. ليس ذلك فحسب, بل وشهدت سنوات كنيدي الثلاثة سعيه الدؤوب لحصر النشاط النووي الاسرائيلي تحت عتبة القدرة النووية. لقد وصل الأمر به أن أشار على بن غوريون بالاستقالة من رئاسة الحكومة, في حزيران 63, محمّلاً إياه مسؤولية التجاوز النووي. صحيح أن كنيدي كان أول من كسر قاعدة الامتناع عن تسليح اسرائيل مباشرةً, عندما زودها ببطاريات صواريخ هوك للدفاع الجوي في آب 62 بحجة تهديد مصر الصاروخي لاسرائيل (قبلها بشهر أجرت مصر اختباراً صاروخياً لنماذج سبقتها اسرائيل اليها بعام). لكن متغيّراً رئيساً دخل على المشهد في خريف 62, هو حرب اليمن. وبينما حاول كنيدي التوصل لتسوية تكفل انسحاب القوات المصرية المساندة للجمهوريين مقابل وقف الإمداد السعودي للملكيين, ما بين مارس واكتوبر 63, وبغير نجاح كبير بعد .. فإن خليفته, ليندون جونسون قلب الأمر عاليه سافله, حال توليه الرئاسة في 22 نوفمبر 63. لقد اعتمد باقة سياسات تأخذ العلاقة مع عبدالناصر من الانفراج الى الصدام, وشملت: استبقاء الجيش المصري في اليمن بغية استنزافه بحرب مرتزقة (كومر), قطع صادرات القمح بغية التركيع, إشاحة الوجه عن المسعى الاسرائيلي لامتلاك القدرة النووية وصولاً الى السلاح النووي, وتسليح اسرائيل بأسلحة هجومية متقدمة.
12- من هنا, فقد كان عام 64 عام ارتقاء مكانة المشروع الاسرائيلي من خانة طالب ضابط الى فئة ضابط احتياط. كان أصحابه في انتظار توفرهم على القدرة النووية حتى تكون أوراق اعتمادهم, ضابط ركن عامل, قد اكتملت ؛ أمرٌ تحقق لهم عشية حرب 67. ما تحقق لهم عند ذلك المفصل أيضاً كان توفرهم على تعلّة شن حرب. لقد تحينوها لحين فلما لاحت اهتبلوها بكل الزخم. وافق جونسون على المهمة آخر مايو 67. كانت, باختصار, حصر الجيش المصري بين خط الحدود وخط العريش-رأس محمد لتكون منطقة قتل له, ولتوفّر الهزيمة هذه إسقاط جمال عبدالناصر ونظامه. لكن ما أحرزته اسرائيل في أيام ستة فاق تصور أحد ؛ وعليه, صار تساحل واسرائيله لا ضابط ركن عامل فحسب بل وشريكاً/حليفاً في صلب هيكل القيادة.
13- لا حاجة لتشريح مسيرة العلاقة الأمريكية-الاسرائيلية منذ 67 ولتاريخه فهي تشرح نفسها .. يكفي القول أنها انطلقت من هدف بؤري هو إسقاط عبدالناصر, لتصل الى وضع اليد على جغرافيا, احتُبست فلسطينها رهينة حتى يقوم أهلوها بأمرين: A- إنهاء الصراع, أي قبول السردية الاسرائيلية له وإسقاط تلك العربية/الفلسطينية, أي الاعتراف ب"حق الشعب اليهودي في تقرير المصير فوق أرضه التاريخية". B - الاكتفاء بكيان بانتوستاني ملحق باسرائيل وحام لها, ونسيان حق العودة. ولا زلنا عند تلك النقطة بعد ما ينوف عن نصف قرن من 67.
طيب, لماذا جرى ما جرى وتحولت واشنجتن من متوجسة من قيام اسرائيل, ثم نائية عن تبنيها, الى راع لها وضامن ثم حليف .... وهل من سبيل لاستعادة أو إعادة إنتاج فترة الانفراج/الوفاق التي سادت ما بين 58 و 62 ؟
في الجواب على الشق الأول, كان السعي الأمريكي للهيمنة على المنطقة العربية, سواء دفعاً ل"خطر" الوحدة العربية على مصالحها, و/ أم في سياق الحرب الباردة مع السوفييت, هو ديدن صصصصقبول أوراق اعتماد اسرائيل أداة تأديب أو عقاب أو محض تهديد.
أما الشق الثاني, فإمكانيته تتوقف على تغيير موازين القوة ؛ فلما كان للعرب قطب مركزي فاعل وصاحب قرار مستقل تعايشت الولايات المتحدة معه قبولاً, ولو على مضض.