د. صبحي غندور يكتب:
فئات النّاس في زمن كورونا
مضت ثلاثة أشهر على انتشار فيروس كورونا عالمياً، وإن كان قد ولد هذا الفيروس قبل ذلك بقليل في الصين، لكنّ هذا الوباء، ذا الشكل التاجي، نجح في تتويج نفسه كهمٍّ أولٍ للعالم حينما اخترق كل الحدود بين الدول، كما وصل أيضاً إلى العديد من السفن البحرية العسكرية والسياحية وجمّد حركة الطيران في السماء.
زمن كورونا قصيرٌ في مدّته حتّى الآن، لكن ما حقّقه من نتائج وآثار غيّرت الكثير ممّا كان قائماً لعقودٍ من الزمن، وما زالت تفاعلاته تتواصل وتدفع نحو مستقبل غامض ومجهول في تفاصيله وفي تحديد الرابح والخاسر من تداعياته.
ما هو ملموسٌ وحاصلٌ الآن، أنّ النّاس في معظم البلدان بدأت تتوزّع إلى فئات ودرجات كمحصّلة للإجراءات المرافقة لانتشار الوباء. الفئة الأكثر تضرّراً طبعاً هي التي أصيبت بالوباء وعانت وتعاني من أعراضه المسبّبة للوفاة أحياناً. لكن مأساة زمن كورونا لا تنحصر في الإصابة بالوباء فقط، فهناك فئاتٌ عديدة من الناس تعيش الآن حالة الخوف من المرض ومن الجوع معاً. ففي الولايات المتحدة هناك حوالي ثلاثة ملايين مشرّد، أي لا مسكن لهم ولا يتوفّر لهم الطعام يومياً ولا يملكون طبعاً الضمانات الصحّية والاجتماعية. وحينما يشعر أي إنسان الآن بالتّعب النفسي من الإقامة الجبرية في بيته، فليفكّر بهولاء الذين لا منزل لديهم ولا حلَّ لمشكلتهم في المراكز المخصّصة لإيواء بعض المشردين، لأنّها تخالف الإرشادات الصحّية عن ضرورة عدم التجمّع والاختلاط مع الآخرين.
والتشرّد ليس مشكلة في أميركا وحدها، ففي تقديرات "مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان" أنّ هناك في العالم أكثر من مائة مليون مشرّد. فكيف يعيش هؤلاء الآن؟!. ثمّ كيف يعيش الملايين من اللاجئين والمُهجّرين بسبب الحروب الدائرة في عدّة دول عربية وأفريقية وآسيوية؟!.
فئةٌ أخرى من الناس تعيش الآن همّ كورونا في منازلها، لكنّها تعجز حالياً ربّما عن دفع إيجار المنزل أو الرهن العقاري أو عن توفير لقمة العيش والغذاء اللازم للعائلة يومياً، بسبب توقّف الكثير من الأعمال التي يتقاضى العمّال فيها أجراً يومياً أو أسبوعياً أو حتّى من أوقفوا عن العمل في مؤسّسات اضطرّت للإغلاق، فسرّحت العاملين فيها حيث أضحوا بلا معاشات وبلا ضمانات صحّية كانت تتّصل بعملهم. فلنفكّر بهؤلاء حينما نشعر بالضيق ممّا هو حاصلٌ معنا وحولنا.
وقد أشار تقرير نشرته وكالة "رويترز" إلى ارتفاع معدّل البطالة في الولايات المتّحدة إلى حدودٍ غير مسبوقة، حيث بلغ عدد طلبات إعانة البطالة في الولايات المتّحدة خلال أسبوعٍ واحد 6.6 مليون طلب. وكشفت وزارة العمل الأمريكية أنّ عدد العاطلين عن العمل في الأسابيع الماضية من الشهر الجاري قد تجاوز 15 مليوناً. كما حذّر خبراء الاقتصاد من خسارة سوق العمل الأميركي ما يصل إلى 20 مليون وظيفة في الولايات المتّحدة خلال الشهر الجاري.
وما هو حاصلٌ بالولايات المتحدة لا يختلف كثيراً عن معظم دول العالم، حيث أصبح ملايين من الأشخاص الآن بلا عمل، في ظلّ توقّف الحياة الاقتصادية والتجارية بسبب الوباء والإجراءات المضادّة له.
إذن، من يعيش الآن في منزله ولا يواجه هو أو أحد أفراد عائلته أزماتٍ صحّية، وقادر على تأمين حاجاته الغذائية والضرورية، عليه أن يكون حامداً لربّه وشاكراً لهذه النِّعم التي لا يتمتّع بها من هم من الفئات الأخرى المحرومة من العمل أو المنزل أو حتّى طعامها اليومي. وهي فرصةٌ الآن لإعادة ترتيب الاهتمامات والأولويات، على المستوين الشخصي والعام، ولتقدير قيمة الكثير ممّا كان الناس قد اعتادوا عليه ولم يلمسوا قدر قيمته إلّا الآن.
إنّ كيفية إدارة الحاضر، لدى الأفراد والجماعات والحكومات، هي التي ستحدّد مسار المستقبل وصورته. وحبّذا لو يبدأ كل إنسان بكتابة خلاصات ودروس من تجربته في هذه الفترة، وأن تفعل ذلك أيضاً مؤسّسات المجتمع المدني لجهة البرامج المطلوب تنفيذها في المجتمع بعد هذه الحالة الطارئة على حياة النّاس والعالم كلّه. فمعيار محاسبة الحكومات في أي مجتمع سيكون في كيفية تعاملها مع حالة الوباء ونتائجه الصحّية والاقتصادية.
وحبّذا لو تدرك القوى الكبرى أنّ الأرض هي "بيتٌ مشترَك" لكلّ الناس عليها، وبأنّ الحريق أو الوباء في أي غرفة لن يرحم الغرف الأخرى. فالعالم كان يعاني قبل زمن كورونا من ويلات "الاحتباس الحراري" في الفضاء، ومن الصراعات بين الشرق والغرب، ومن استعمار الشمال للجنوب، ومن إرهاب متنوّع الأسماء والأهداف، ومن عنصريات تنمو وتكبر في أماكن مختلفة، ومن احتلال استيطاني جاثم على أرض فلسطين كآخر مظاهر الاحتلال في العالم المعاصر.
النّاس جميعهم على هذه الأرض هم على متن سفينةٍ واحدة، لكن المشكلة هي دائمأ في ربّان هذه السفينة، وللأسف، اختارت الولايات المتحدة من هو غير مؤهّل لقيادتها فكيف بقيادة العالم؟!