إميل أمين يكتب:

الأمير تشارلز.. جسر بين الأديان والحضارات

هل حقا هناك صناعة في الغرب تنتج العداء للإسلام كعقيدة وللمسلمين كأتباع لهذه العقيدة؟

الجواب وإن جاء بالإيجاب، إلا أنه لا يكتمل في حقيقة الأمر إذا لم نشر إلى وجود شخصيات إيجابية متحررة في نفوسها وعقولها من عبودية الإسلاموفوبيا، وترفض أن تسير مع الأوهام السائرة، لا سيما تلك التي تعتبر أن المسلم هو إرهابي بالضرورة أو مشروع إرهابي على الأقل.

من بين هذه الشخوص على قلتها يأتي الأمير تشارلز أمير ويلز وولي العهد في بريطانيا، والرجل له تاريخ ناصع ومشرف على صعيد العلاقة مع الإسلام كدين ورؤيته له، ومع العالم الإسلامي وسكانه الذي تربطه بهم روابط إيجابية وإنسانية يشهد بها القاصي والداني.

ما الذي يجعلنا نتذكر الأمير تشارلز على نحو خاص في هذه الأيام ذات النفحات الرمضانية المباركة؟

قبل بضعة أيام كان الأمير تشارلز يوجه رسالة ملؤها الاحترام للعاملين في القطاع الطبي البريطاني من المسلمين تحديدا، أولئك الذين قدموا حياتهم في مواجهة فيروس كورونا.

قبل الخوض في رسالة تشارلز ينبغي الإشارة إلى حقيقة أن موجة عالية وعاتية من العداء للإسلام والمسلمين قد ارتفعت في الأعوام الأخيرة، بعضها تسببت فيه العمليات الإرهابية التي جرت على أراضي المملكة بنوع خاص وأراضي أوروبا بشكل عام، وبعضها الآخر من جراء الحفريات الفكرية التاريخية إن جاز التعبير، تلك التي استدعت أشباح صراعات القرون الوسطى، وزاد من النيران اشتعالا بعض الكتاب الأوروبيين الذين روجوا طويلا لفكرة أسلمة الغرب بشكل إجمالي وأوروبا على وجه التخصص، الأمر الذي فتح الأبواب واسعة أمام تيارات اليمين الأصولي الأوروبي وأحزابه الساعية في طريق الذهنية الأحادية، المعروفة بعدم قبولها للآخر جملة وتفصيلا.

في هذه الأجواء كانت النظرة للمسلمين في الداخل البريطاني تتحرك في اتجاه سلبي، إلى أن جاءت كارثة كورونا، وأظهر المواطنون البريطانيون الذين يدينون بالإسلام أنهم ليسوا طابور خامس داخل البلاد، بل بشر على أعلى درجات الإنسانية، وقد سقط منهم الكثيرون أثناء مكافحة هذا الوباء الفتاك الضاري.

مثل هؤلاء وجه إليهم الأمير تشارلز كل الشكر، وهو من مر بتجربة الإصابة بفيروس كورونا وانتصر عليه لاحقا، ومن بين هؤلاء كل من أمجد الحوراني وعبدالمعبود شودري اللذين ناضلا ضد الفيروس التاجي.

وحديث الأمير تشارلز يأتي ضمن شهر رمضان الفضيل، الأمر الذي يضفي لمسة خلاقة على الحديث لولي العهد البريطاني، ويعزز من الجسور القائمة والقادمة، في الوقت الذي يحاول فيه البعض إقامة المزيد من الجدران العالية التي تمنع التلاقي بين البشر .

المتابع لسيرة الأمير تشارلز يقطع بأننا أمام رجل فريد من نوعه، إذ لا يتوقف كثيرا عما جاد به عليه القدر من مكانة وحظوة ومستقبل، بل يغري الباحث في حياته هذا الثراء الكبير في علومه ومعارفه.
قبل بضعة أعوام وفي ذكرى مرور خمس وعشرين سنة على تأسيس مركز الدراسات الإسلامية في جامعة أكسفورد العريقة ألقى الأمير تشارلز كلمة أخذت ساعة كاملة من الزمن بدا فيها الرجل كمستشرق حقيقي قادر على ضبط الأفكار قبل الكلمات، واضعا إصعبه في جرح الحضارة الحديثة والرأسمالية المعولمة التي سلعت الإنسان، الأمر الذي لقي استحسانا كبيرا من جمهور سامعيه.

في كلمته المميزة جدا تلك أشار الأمير تشارلز إلى أن الجهود التي تبذل في العالم الصناعي اليوم لا تنبثق حتما من المحبة للحكمة، وإنما تنطلق من قاعدة ذهنية تسعى إلى الربح المادي أكثر من أي شيء آخر.

يرى الأمير تشارلز أن هناك تعاليم في الإسلام تؤكد أن الجانب الاستهلاكي في الإنسان لا يمثل مطلق حياتنا البشرية ، بل يتوقف عند مفاهيم إيمانية إسلامية عميقة منها أن الإنسان خليقة الله تعالى، ويرى أن القرآن يقدم رؤية تكاملية تشمل الدين والعلم والعقل والمادة جميعا.

المتابع لسيرة الأمير تشارلز يقطع بأننا أمام رجل فريد من نوعه، إذ لا يتوقف كثيرا عما جاد به عليه القدر من مكانة وحظوة ومستقبل، بل يغري الباحث قي حياته هذا الثراء الكبير في علومه ومعارفه، وفي انفتاحه على الآخرين من غير المسلمين بنوع خاص، فقد زار غالبية إن لم يكن جل البلاد العربية والإسلامية، وله في كل زيارة حديث من الأنتلجنسيا العربية والإسلامية، كما أنه من المعززين لأفكار الحوار بين أتباع الحضارات والثقافات والأديان المختلفة، وقد تعاظم هذا الدور بنوع خاص في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر 2001.

يؤمن الأمير تشارلز بأن الحكمة ليست حكرا على أحد، ويفخر دوما بأنه تم إنشاء كرسي أستاذ للدراسات العربية في جامعة كامبريدج في القرن السابع عشر، ويؤمن كذلك بأن مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية يعد وسيلة مهمة لتشجيع فهم العالم الإسلامي في بريطانيا، ودائما يردد مثلا عربيا فحواه أن ما تنبس به الشفتان تلتقطه الأذهان، وما يجود به القلب يصل إلى صميم القلب.

توجهات الأمير تشارلز تفضح في واقع الحال الكثير من المراكز الفكرية الغربية ذات التوجه والنمط الأحادي، ذاك الذي يرى الحياة من منظور واحد، ولا يتجاوز المشهد بالنسبة للكثيرين منهم الأسود والأبيض، رغم أن الحياة مليئة بدرجات متفاوتة من الألوان الرمادية، والتاريخ نفسه مليء بمحطات الوفاق ولحظات الافتراق، ولم تشهد علاقات أي أمة مع جيرانها نعيما مقيما كما أنها لم تكن يوما جحيما مستديما.

يعن للمرء أن يتساءل: "ما هو الأثر الذي تتركه كلمات الأمير تشارلز الأخيرة على التعايش الواحد في الشرق والغرب بين أتباع الأديان والثقافات المختلفة، لا سيما في وسط مسلمي أوروبا بنوع خاص؟

المؤكد أن تشارلز، الرجل الذي سيصبح رأس الكنيسة الأنجيلكيانية عند توليه عرش البلاد، بمثله الناصع والصالح هذا، إنما يدفع إلى مزيد من أزمنة المودات وعصور التلاقي، وكونه في هذا الموقع والموضع القيادي، وفي دولة ذات جذور تاريخية، وقريبة من الشرق الأوسط والخليج العربي تاريخيا، فإن هذا يعني إمكانية تعزيز التفاهم المشترك، وإتاحة الفرصة لأجيال تلتقي حول كل ما هو نافع ومفيد للإنسانية، الأمر الذي يختصم تلقائيا من جذور الشر والتطرف، ويبسط الآمال العريضة حول عالم من الجسور الواسعة الرحبة، وليس من الجدران العالية الخانقة.