إميل أمين يكتب:
فرنسيس.. عن "الجائحة والأخوّة الإنسانية"
على مشارف شهر أبريل الجاري صدرت عن الأكاديمية البابوية للحياة مذكرة تتعلق بالأوضاع التي يمرّ بها العالم اليوم نتيجة تفشي فيروس كورونا الذي أضحى جائحة تلفّ البشرية برُمّتها، وليس وباءً ضرب إقليما جغرافيا بعينه.
المذكرة حملت عنوان "الجائحة والأخوّة الإنسانيّة"...هل في العنوان رَجْع صدى لوثيقة الأخوة الإنسانية التي تمّ توقيعها في فبراير من عام 2019 على أرض الإمارات العربية المتحدة، برعاية إماراتية وبمشاركة كل من بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر؟.
أغلب الظن أن ذلك مما يبين الأثر الإيجابي والفعّال لهذا الحدث التاريخي وغير المسبوق في تاريخ الشرق والغرب، وبين أتباع الأديان كافة.
ليس سرا أن البشرية عن بكرة أبيها تعيش لحظات محنة، ويشعر الناس بالحاجة الماسّة إلى التضامن والاعتماد بعضهم على بعض، انطلاقا من هشاشة الحال، ومحدودية المواجهة مع هذا الفيروس الذي أجبر العالم على إعادة النظر في نموذج النمو الإنساني الواجب أن يكون.
لم يكن فرنسيس رجل الأخوّة الإنسانية بعيدا بحال من الأحوال عن المذكرة الفاتيكانية الأخيرة، فكلماتها وروحها منبثقة بكل تاكيد وتحديد من وثيقة الأخوّة الإنسانية، وهذا ما أشار إليه في مقاله المعنون "خطة النهوض" والذي نُشِرَ مؤخرا في مجلة
Vida Nueva الإسبانية، حيث أكد على أن هذا الفيروس وَلَّدَ آلاما كبيرة، بَيْدَ أنه ساعدنا على اكتشاف كوننا أعضاء في عائلة واحدة، وشَدَّد أيضا على ضرورة تبنّي نظرة جديدة للعالم.
استخدم فرنسيس في مقاله تعبيرا مستوحى من أجواء كورونا القاتلة، وذلك بالدعوة إلى نشر "الأجسام المضادة" الخاصة بالتضامن.
في ثنايا سطوره يلفت فرنسيس إلى أن البشرية لا بد لها وأن تكون قد تعلمت شيئا هاما خلال هذه الأزمة التي نمر بها، وهو أن لا أحد يستطيع أن ينجو وحده، فالحدود تزول والجدران تنهار وكل الخطابات المتطرفة تضمحل أمام شعور الإنسان بهشاشته.
ما الذي سلطت عليه مذكرة "الجائحة والاخوة الانسانية"؟.
تدعونا القراءة المعمقة لسطورها إلى التفكير في معنى العيش وسط الألم والقلق والخوف، لا سيّما وأن هذا الفيروس القاتل زعزع كافة مسارات ومساقات الخليقة في وقت قياسي وبصورة غير عقلاني.
من بين القضايا التي تُظهِرها الوثيقة ما يبدو وكأنه تناقض ومفارقة غير مفهومة لم يتوقعها حتى كُتّاب سيناريوهات الخيال العلمي في هوليوود من قبل، ذلك أنه لكي نحمي أنفسنا من الفيروس، علينا أن ننعزل عن بعضنا البعض، وهذه العزلة في الوقت عينه تُذَكِّرنا بحاجتنا الماسّة إلى بعضنا البعض من أجل البقاء على قيد الحياة.
هل يمكن اعتبار كورونا جرس إنذارٍ للخليقة برُمّتها، تلك التي حاجَجَ بعضٌ من أبنائها بأنها في نموذجها الرأسماليّ قد بلغت نهاية التاريخ كما فعل المفكر الياباني الأصل الأمريكي الجنسية فرانسيس فوكاياما عبر أطروحته لنهاية التاريخ؟.
الشاهد أنه وعلى الرغم من الإنجازات التكنولوجية الكبيرة والخطيرة أيضًا برًّا وبحرًا وجوًّا في العقود الماضية، إلا أن كورونا بَيَّنَتْ للقاصي والداني أن الكمال لله، وأن القصور من شأن كلّ فعل بشريّ، إذ وجدت المجتمعاتُ صعوبةً في التعرُّف على هذا الواقع والإقرار بتأثيره على الناس.
كثيرًا ما اعترَضَنا تعبير "العلم الذي ينفخ"، وعلى الرغم من الإقرار بأهمية العلم وحيثيّة العلماء، والاهتمام الواجب إيلاؤه للبحث العلميّ، إلا أن هذه المنظومة برُمّتها يجب أن تكون رادعًا ووازعًا للتواضع الإنسانيّ أمام الكون وخالقه، والطبيعة ورافعها من غير عمد، والسماوات وما فوق الجَلَد، فها قد أتى اليوم الذي تسعى فيه البشرية جاهدةً إلى احتواء المرض والحدّ من انتشاره، ما يجعلنا ندرك إلى أيّ حدٍّ مدى هشاشاتنا الجسدية، بل والثقافية والسياسية.
والثابت أنه بمقدار ما أظهر الوباء ما في النفس الإنسانية من جذور طيبة ممتدّة في الأرض وفروعها تسعى إلى السماء، كما رأينا في الرجال والنساء الذين مدّوا أياديهم متضامنين مع ألم وخوف الآخرين، فإن ألم كورونا كذلك أيقظنا على أنواع أخرى من الأوبئة، مثل التي أشار إليها فرنسيس، كالإقصاء واللامبالاة والتهميش، فقد أخفق العالم من قبلُ في تقدير بعض أصحاب المهن كالأطباء والممرضين والممرضات.
واليوم الجميع مدعوّون لتسليط الضوء على الدور النضاليّ الذي لعبه ويلعبه هؤلاء، عطفًا على بشر آخرين لا ننتبه إليهم في يومنا الاعتياديّ، من عند الموظفين في المتاجر الكبرى، مرورًا بعمال التنظيف، وسائقي الشاحنات، والقوى الأمنيّة، والمتطوّعين، ورجال الدين، والمعلّمين، هولاء الذين لم يتوقّفوا عن القيام بواجبهم، ما يفيد في نهاية المشهد بأن خلاص العالم وطوق نجاته الوحيد هو حبل الأخوّة الإنسانيّة.
تضعنا مذكرة الأكاديميّة البابويّة أمام فكرة المساواة التي كانت والتي ستعود حكمًا، وقد أطلق العديد من المفكّرين على كورونا تعبير الفيروس الديمقراطيّ الذي أصاب الزعماء بقدر ما وَجَّهَ سهامه للعوامّ، والذي لم يفر من قَدَرِه الفقراءُ، كما لاحق بقسوة الأغنياءَ، أولئك الذين اعتبروا ذات مرّة أن أموالهم قادرة على أن توفّر لهم ملاذات آمنة، وأنّ رؤوس أموالهم تكفل لهم الهرب من الطوفان، وتاليًا اكتشف الجميع أنّنا لسنا أسياد مصيرنا، وصرنا نلمس لمس اليد هذا الترابط القائم بين البشر ومدى اعتماد بعضُنا على البعض، واكتشفنا اليوم أن سلامة كل فرد تعتمد على سلامة الجميع.
شجّعت المذكرة كذلك على إعادة النظر في بعض نماذج النمو المتّبعة اليوم، ودعت الناس إلى الإقرار بمحدوديّة العلم والتكنولوجيا، مع التشديد على أهمية ألا يطغيا على العلاقات بين البشر وألا يُنظَر إلى حياة الكائن البشري كواقع بيولوجي وحسب، لذا فلا بد أن تشمل عملية العلاج الشخص بكل أبعاده.
يؤمن فرنسيس جازمًا بأن ما يحدث حول العالم يهزّنا في عمق أعماقنا، ولهذا فقد حان الوقت لإزالة عدم المساواة وإصلاح الظلم الذي يهدّد جذور سلامة البشرية بأسرها.
فرنسيس الفقير وراء جدران الفاتيكان يثق في أننا نقف اليوم أمام تبدّل تاريخيّ، ويفكّر بالمستقبل وبالانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية التي ستترتّب على هذه الأزمة، ويطلب من معاونيه، ومن كافة أركان الكرويا الرومانيّة (وزارة الفاتيكان أو حكومة البابا)، أن يَتَبَنَّوْا نظرة علميّة مبدعة، والبحث عن مقاربة شاملة تكون مرفقة بالقدرة على الاستجابة للمتطلبات المحلية.
مذكرة "الجائحة والأخوّة الإنسانية" لم توفر دعوة القادة السياسيين كي يتبنوا نظرة واسعة النطاق في العلاقات الدولية ويبتعدوا عن منطقٍ "قصير النظر" يتمثّل في البحث عن حلول قومية، لأنه بدون تعاون ناجع وتنسيق فاعل يواجهان العراقيل السياسية والتجارية والأيديولوجية فلن يمكن التغلب على هذه الجائحة.
هل كان للمذكرة أن تُغفِلَ البُعد الروحيّ بعد أن مازجت بين العلم والأنسنة؟
بالقطع لا، إذ شَدَّدتْ على أهمّيّة الإيمان بالله في هذه الظروف لأن الإيمان يمنح الإنسان القوة الداخلية اللازمة ليشهد للأخوة الإنسانية.
الخلاصة ... الإنسانية مدعُوّة إلى ولادة جديدة .. يُضْحِي فيها الجميعُ إخوة في الحقّ الذي يحرّر ويقدّس.