إميل أمين يكتب:
عن كورونا والمسألة الدينيّة
أفرزت أزمةُ انتشار فيروس كوفيد-19، ضمن ما أفرزت، إشكاليّة في الفهم الدينيّ حول العالم، ومن غير أن يتّصل ذلك بدين معيّن أو مذهب بذاته، فقد شمل الأمر الجميع في كافّة قارّات الأرض. ما الذي جرى على وجه الدقّة؟ ولماذا هي إشكاليّة في حدّ ذاتها؟
من المؤكَّد أنّ الإنسانيّة وقفتْ حائرة أمام هذا الفيروس الذي ضرب البشر في أعزّ ما يملكون، حياتهم وأنفسهم قبل أن يصيب ممتلكاتهم، ويقطع أرزاقهم، ويوقف عجلة حياتهم على النحو الذي نراه.
في هذا الإطار لا يصبح أمام البشر سوى الاستعانة بالسماء واستمطار مراحم الله على الأرض، بعد أن أيقن الكلُّ أنّ المصل الشافي بعيد، وأن الترياق المعالج بدوره غير حاضر، والمجهول فقط هو ما يواجه الخليقة في هذه الأوقات الصعبة.
على أن الالتجاء إلى الأديان يمكن أن يمضي في طريق عقلانيّ لا تعارُضَ فيه بين العقل والنقل، وكذا بين المعطيات العلميّة والحقائق الإيمانيّة، ويمكنه أيضا أن يكون فهما مغلوطا يتسبّب في كوارث مضافة للإنسانيّة.
بعض الأمثلة نحاول من خلالها أن نفهم كيف ارتبطت المسألة الدينيّة بانتشار فيروس كورونا ارتباطا مثيرا للاهتمام، والبعض قد قُدِّرَ له أن يفهمه في الإطار العقلانيّ السليم، والبعض الآخر ذهب به الشطط بعيدا إلى الحدّ الذي تسبّب معه في زيادة سرعة ومعدَّلات الانتشار وسقوط ضحايا جدد.
من المؤكَّد أنّ الإنسانيّة وقفتْ حائرة أمام هذا الفيروس الذي ضرب البشر في أعزّ ما يملكون، حياتهم وأنفسهم.
في الأسبوعين الماضيين أظهرت نتائج استطلاع رأي جرتْ في الداخل الأمريكي أنّ أكثر من 605 من الأمريكيّين يؤمنون بأن فيروس كورونا هو رسالة إلهيّة تحمل في باطنها رغبة سماويّة في أن تغيّر البشريّة مسيرتها.
وعلى الرغم من أن معظم دور العبادة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة قد أوقفت استقبال المصلّين، وذلك بهدف المساعدة في حماية الصحّة العامّة مع بدء انتشار الفيروس إلا أن 57% من الأمريكيّين قالوا إنّهم يصلّون أسبوعيّا على الأقلّ منذ شهر مارس، وهي نسبة عالية مقارنة بالذين كانوا يؤدّون الصلوات قبل ذلك.
حسنا، بل حسنا جدّا أن يكون الإيمان سندا وركيزة للإنسان فيما يواجه غوائل الدهر بعقلانيّة وموضوعيّة، فيما الأمر السيّئ هو أن تتحكّم به الهواجس، ويمضي به الشطط إلى فهم مغلوط للبُعد الدينيّ الذي يحثّ على الأخذ بالأسباب من جهة، والسعي من أجل إعمار الأرض من جهة ثانية.
منذ اللحظات الأولى لانتشار فيروس كورونا، كان التوجُّه إلى تفعيل التباعد الاجتماعيّ بين البشر، من أجل تقليل فرص المخالطة بين الناس، ومن ثم انتقال الفيروس المخيف من واحد إلى آخر.
إلا أن البعض من أنصار اليمين الديني المتطرّف اعتبر أنّ في الأمر خدعة من حكوماتهم، وأنّ عليهم القيام بأداء شعائرهم الدينيّة مهما يكن من شأن انتشار المرض.
خُذْ إليك ما فعله "رودني هوارد براون"، راعي إحدى الجماعات الدينيّة المسيحيّة الإنجيليّة في فلوريدا بأمريكا، والذي تحدّى الأوامر العامّة للولاية بالتباعد الاجتماعيّ مدّعيا أن "كنيسته" هي المكان الأكثر أمانا حول العالم.
أما "جيري فالويل الابن"، فقد رفض الاستجابة الوطنيّة للوباء واصفا إيّاها بأنها "ردّ فعل مبالغ فيه"، وأعاد فتح جامعة "ليبرتي" بعد الربيع، الأمر الذي تسبّب لاحقا في تسجيل نسبة عالية من الحالات الإيجابيّة ضمن صفوف طلابه.
من قلب أمريكا إلى إيران، حيث التمذهب والتعصّب، وحيث الكارثة تبدأ في العقول، فقد شاهد العالم برمّته كيف يقوم البعض من المسكونين بالهواجس الدينيّة بلعق حوائط الأضرحة في مدينة قُمْ، والإصرار على فتح المزارات الدينيّة، انطلاقا من أن المؤمنين لا يمكن أن يصابوا، وأن الضرر والموت سيقعان بالكفّار الغربيّين فقط حسب زعمهم.
يَعِنُّ للمشاهد للمشهد الإيرانيّ أن يتساءل اليوم وبعد قرابة 4 أشهر من الجائحة عن النتيجة التي تسبّبت فيها السلوكيات الدينيّة والإيمانيّة المتبعة لديهم في قلب إيران من آلاف الموتى وأضعافهم من المصابين، أمّا عن الخسائر المادّيّة فحَدِّثْ ولا حرج، الأمر الذي يُعمِّق من أزمات إيران الداخليّة يوما تلو الآخر.
لم تكن الأحياء اليهوديّة الأرثوذكسيّة في مدينة القدس بعيدة بدورها عن هذا الفهم المغلوط والقراءة في المعكوس لعلاقة الوباء بالإيمان والأديان، فهناك لا سيّما في الضاحية الشماليّة الشرقيّة من المدينة المقدّسة، حيث أحياء يقطن غالبيّتها اليهودُ المتشدّدون، كانت أعلى نسب لانتشار كورونا بين مواطني إسرائيل، بسبب رفضهم لأوامر الدولة بالتباعد الاجتماعيّ، وقد شاهد العالم على شاشات التلفزة احتفالات عديدة دينيّة واجتماعيّة لهم، سواء داخل إسرائيل أو خارجها كما في بعض مناسباتهم التي جرت في بروكلين بنيويورك.
فارِقٌ شاسع في واقع الحال بين الفهم المتطرّف والمتشدّد للأديان، والغير مستند إلى ركائز عقلانيّة أو حقيقية، واتباع هدى الإيمان من أجل استنقاذ الإنسان، وبين الدعوة لأن تكون الصلاة عاملا موحِّدا للبشريّة بطريقة راقية ورائقة كما رأينا نهار الرابع عشر من مايو/ آيار الماضي، وذلك حين استجاب العالم برُمَّته لنداء لجنة الأُخوّة الإنسانيّة للصلاة من أجل أن يرفع الله تعالى الوباء عن البشر.
التفسير السوسيولوجيّ لما جرى ويجري هو أنّ ملايين البشر ورغم ما بلغه العالم من تقدُّم علميّ، لا يزالون يعيشون في دائرة الغيبيّات والارتكان إلى الوهم، والوقوف أمام النصوص الدينيّة دون إدراك معناها ومبناها الحقيقيّ، والذي يعمد إلى ترقية البشريّة من إطارات وسياقات الحياة البدائيّة، إلى الرقي الروحيّ والتسامي الوجدانيّ.
أمر آخر مثير للانتباه في هذا السياق، وهو علاقة العولمة بالعامل الدينيّ، فقد خُيِّل لكثير من الناظرين للمشهد الأمميّ أن الإنسانيّة سوف تتخلّى عن الأديان، فجاءت النتيجة مختلفة تماما إذا عزّزت الحاجة إلى الأديان، إلا أن الكارثة هنا تجلَّتْ في تفسيراتٍ ذهب البعضُ منها إلى أقصى اليمين فأفرز تطرُّفا وإرهابا، والبعض الآخر مضى إلى أقصى الشمال لينتج لنا فاشيّة ونازيّة وشوفينيّات محدَثة كما نرى في أوربّا اليوم.
المشهدان يثيران الغبار بقوّة، وفي حين المطلوب استرجاع الإيمان النقيّ من حاضنة دعاة الفكر المغشوش أمس واليوم.