إميل أمين يكتب:

أمريكا والعنصرية التي لا تفيد

سريعا جدا تتداعى المشاهد في الداخل الأمريكي، تنقلها عدسات التلفزة الدولية، وتذيع أخبارها وكالات الأنباء العالمية، فيما وسائط الاتصالات الحديثة تُتابع لحظة بلحظة تحركات وتصرفات على الأرض أشبه ما تكون بأحلام اليقظة، الأمر الذي يفتح الباب واسعا للعديد من التساؤلات.

هل لا تزال ثقافة العنصريّة قائمة في البنية الهيكليّة الأمريكيّة، رغم عدّة عقود من اعتبارها ذكرى أليمة مرَّتْ بالبلاد ورافقت نشأتها؟ 

إشكاليّة أمريكا الحقيقيّة هي أنّها مصابة بازدواجيّة يُطلَق عليها تعبير "تكافؤ الأضداد في الروح الأمريكية الواحدة"، فعلى سبيل المثال لا الحصر، بحسب الدستور أمريكا دولة علمانيّةُ الهويّةِ، لكن في الواقع هي دولة مغرقة في الهوى الدينيّ.

هكذا يمكن القياس فيما يخصّ مسألة العنصريّة في الداخل الأمريكيّ، ففيما كافّة القوانين تشير إلى انتهاء العنصريّة رسميّا بشكل دستوريّ، إلا أن هناك دستورا آخر مكتوب في القلوب والصدور يمايز طبقيّا وعنصريّا بين البشر على أسس من اللون والعِرْق.

يستطيع المرء أن يدرك ذلك من خلال نظرة بسيطة يلقيها على أماكن تواجُد الأمريكيّين الأفارقة في المدن الأمريكيّة، وهنا سيدرك أن معظم المدن الكبرى تنقسم إلى قسمَيْن: قسم الأغنياء البِيض، حيث المساكن الفاخرة والسيارات الفارهة، وقسم عادة ما يكون في الجنوب من تلك المدن حيث الفقر الظاهر، وأحياء المخدِّرات، والكحول، وبقيّة المآسي المرتبطة بالأمريكيين من أصول إفريقية.

لم يكن حادث جورج فلويد الأخير، إذ لا يكاد يمرّ عامٌ من غير ضحيّة من الأمريكيّين الأفارقة الأصل، ومع كلّ حادثة جديدة تعود أحداث الشغب إلى سماوات الأحداث من جديد، غير أنّه هذه المرّةَ يكاد المشهد يختلف، فللمرّة الأولى منذ أكثر من عشرين سنة تندلع هذه الاشتباكات في أكثر من عشرين ولاية وتزداد اشتعالا يوما تلو الآخر، ولا تقتصر التظاهرات على ذوي البشرة السمراء، بل تشارك فيها فئات مختلفة من الشعب الأمريكيّ، ما يعني أن هناك خللا بنيويّا تتوجّب معالجتُه.

أحد أهمّ الأسئلة التي يطرحها البعض في الآونة الأخيرة: "هل الرئيس دونالد ترامب مسؤول مسؤوليّة مطلقة عن تلك الأحداث؟

من الظلم البَيِّن اعتبار ذلك أيضا، فعلى الرغم من أن ترامب استهلّ رئاسته ببعض القرارات ذات المسحة العنصريّة، مثل مَنْع دخول مواطني دول غالبيّتها إسلاميّة إلى البلاد، وهو القرار الذي أوقفتْه محاكمُ أمريكا، إلا أن القطع بأن الرجل هو سبب البلاء العنصريّ الذي يملأ البلاد ويحيق بالعباد هو قول متجاوز ومغلوط بالمرّة، ولا يمكن اعتبار الأمر على هذا النحو أبدا، فميراث العنصريّة ضارب جذوره في المجتمع الأمريكيّ، وربّما حان الوقت لمراجعة المشاهد الحياتيّة الأمريكيّة، بأكثر من إعادة النظر في القوانين التي تتناول شأن العنصريّة في البلاد.

ضمن علامات الاستفهام التي واكبت ولا تزال تواكب الأحداث في الداخل الأمريكيّ: "هل هناك بالفعل أيادٍ خارجيّة تلعب على التراب الوطنيّ الأمريكيّ؟

السؤال مثيرٌ للانتباه بالفعل، فقد بدتْ كثيرٌ من شوارع المدن الأمريكيّة أقرب ما تكون إلى ساحات النِّزال، وهذا أمر يختلف اختلافا جذريّا عن التظاهرات والاحتجاجات السلميّة التي يكفلها الدستور الأمريكيّ. وبدا المشهد وكأنّ هناك مَن يحاول تعطيل الحياة، وقَلْبَ المشهد الأمريكيّ رأسا على عقب، لا سيّما في ظروفٍ استثنائيّة تمرّ بها البلاد، أي تفشي وباء كوفيد -19 المستجدّ، والذي أوقع أكثر من مئة ألف ضحيّة أمريكيّة حتّى الساعة.

من الطبيعيّ أن يكون هناك أعداء كُثُر للولايات المتّحدة، فهي الإمبراطوريّة التي تفرض عقوبات اقتصاديّة على أكثر من ثلاثين دولة حول العالم، لكن أن يصل الأمر إلى الوصول إلى العُمق الأمريكيّ وترتيبِ تظاهرات عنيفة على هذا النحو فهو أمر مُستبعَد في اللحظة الآنيّة، وإن كانت وسائط التواصل الاجتماعيّ قد قَرَّبَتْ المسافات حول العالم، وجعلتْ من المستحيل ممكنا بشكل أو بآخر.

ضمن أسئلة الأزمة سؤالٌ يتعلّق بأطراف أخرى تبدي مخاوفها من تصاعُد العنصريّة في الداخل الأمريكيّ، فقد رأينا ولا نزال مشاهدَ تنمّ عن عنصريّة تجاه مسلمين أمريكيّين ضمن سياق ما يُعرَف بظاهرة الإسلاموفوبيا، وهذه تسبق ترامب بعقدين على الأقلّ.

لا يتوقّف الأمر عند ذوي الأصول الإفريقية والمسلمين، لكنّه ويا لَلعجب يمتدّ أيضا إلى اليهود في الداخل الأمريكيّ، إذ تتصاعد من جديد ظاهرة العداء للساميّة، وقد رأينا هجمات عديدة على معابد ومنشآت لليهود الأمريكيّين، على الرغم من القوانين التي تحظر العداء للساميّة في الداخل الأمريكيّ.

القضيّة إذن أخطر من مجرّد الاحتجاج العنيف على مقتل الشابّ الأفروأمريكيّ "جورج فلويد"، إنّها نقمة داخليّة أمريكيّة بين فريقين: اليمين الأصوليّ الأمريكيّ الرافض لأصحاب البشرة السمراء واليهود والخلاسيّين "الإسبان ومن لفّ لفّهم"، وجماعات مغايرة تؤمن بالعنف الثوريّ مثل "أنتيفا"، والتي هي اختصار للجماعات الرافضة للفاشيّة، وفيما بينهم تزداد البلاد اضطرابا وتنتشر في القلوب والصدور معاركُ حامية الوطيس.

لا يمكننا أن نغفل ضمن هذه السطور التساؤل: "هل من علاقة ما بين تلك الاحتجاجات وذلك الشغب والانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة القادمة في نوفمبر 2020؟

من تسطيح القول إن اعتبرنا أن التظاهرات خرجت في الأصل من أجل إقصاء الرئيس ترامب عمّا قريب، لكن أيضا يضحي من الخطل الكبير إن تجاوزنا حقيقة أن هناك من استغلّ المشهد استغلالا براجماتيّا بالمطلق لتحقيق غايات انتخابيّة، وهو الأمر الذي ألمح إليه الرئيس ترامب ووزير العدل وليام بار، عطفا على مستشار الأمن القوميّ روبرت أوبراين.

على أن خمسة أشهر تفصلنا عن الانتخابات الرئاسيّة سوف تتبدّل فيها الأوضاع وتتغيّر الطباع، وما لدى الولايات المتّحدة من دستور وقوانين، ومن دولة مؤسّسات، ومن حكماء وفهماء، ومن قوّة لإعادة الضبط والربط، تجعل هواجس انكسار أمريكا بعيدة جدّا، وبالتالي فالحديث عن مصير الانتخابات الرئاسيّة القادمة مبكّر القطع به.

هل أمريكا مَدعُوّة اليوم لإعادة قراءة " الحلم الأمريكيّ" الذي خلق لها بريقا خاصّا في العيون ذات مرّة؟

مؤكّد عليها أن تفعل وبأقصى سرعة.