إبراهيم أبو عواد يكتب:
العلاقة بين الإنسان العادي والفيلسوف
1
الأنظمة الاجتماعية المسيطرة على طبيعة السلوك المادي للإنسان ، لا تنفصل عن المشاعر والذكريات والقيم الروحية ، وهذا الارتباط الوثيق يستلزم تكوين علاقة منطقية شاملة تقوم على تفسير الثنائيات المتجذرة في بنية المجتمع ، مِثل : الجوهر والمظهر . المضمون والشكل . المفهوم والمنطوق . الرمز والإشارة . والإنسانُ في زحمة الحياة اليومية يتعامل مع هذه الثنائيات جُملةً وتفصيلًا ، باعتبارها قِيَمًا وجودية مُعاشة ، ولَيس باعتبارها تراكيب فكرية ضمن منهج فلسفي عقلاني يقوم على التَّعليل ( السبب والنتيجة ). وهنا يتَّضح الفرق بين الإنسان الخاضع لأعراف المجتمع الاستهلاكي ، والفيلسوف الذي يبني قوانين المنطق الاجتماعي . وهذا الفرق يُشبِه الفَرْقَ بين الرَّجل الذي يَشعر بالحُب تجاه زوجته ، لكنَّه لا يَستطيع كتابة قصيدة حُب لها ، لأنَّه لَيس شاعرًا، وبين الشاعر الذي يَشعر بالحُب، ويَستطيع كتابة قصيدة حُب ، لأنَّه يَمتلك رؤية الشاعر ولُغته وأدواته. وهذه المُقارنة تُثبِت بوُضوح أنَّ جَميع الناس _ بلا استثناء_ لَدَيهم أحاسيس ومشاعر ، ويَعيشون في تفاصيل الحياة بحُلوها ومُرِّها،ولكنْ لَيس كُل الناس لَدَيهم القُدرة على التعبير والتحليل المنطقي.والفيلسوف هو شاعر الواقع اللغوي، والشاعرُ هو فيلسوف الخيال اللغوي . وبدُون اللغة ، سيقع الإنسان في الفراغ المُوحِش.
2
الإنسان العادي يعيش في المجتمع بشكل أُفقي ، لكن الفيلسوف يعيش في الفكر الإنساني لإعادة بناء المجتمع أُفقيًّا وعموديًّا. لذلك ، لا يهتم الإنسانُ العادي بطرح الأسئلة عن طبيعة العلاقات الاجتماعية ، ولا يبحث عن أسباب منطقية للظواهر الإنسانية ، لأنَّه مشغول بالحياة المادية الضاغطة ، ومُحَاصَر بإفرازات النظام الاستهلاكي ، وهذا يمنعه مِن الغَوص في أعماق نَفْسِه ، والتَّنقيبِ عن ماهية العلاقات الاجتماعية . مِمَّا يَجعله كائنًا أُحادي النظرة ، يسير وفق مُعادلة حياتية بسيطة ، دُون أن يَلتفت إلى عناصر الطبيعة المُحيطة به مِن أجل تحليلها ، والوصول إلى أنويتها الأساسية . في حِين أن الفيلسوف يطرح الأسئلة التي تُحاول اكتشاف أعماق الطبيعة الإنسانية ، وتحليل العلاقات الاجتماعية ، وتفكيك المُركَّبات الفكرية وُصولًا إلى عناصرها الأساسية. أي إنَّ الفيلسوف يبحث عن أجوبة تعتمد على التفكير المنطقي المُتسلسل الذي يَبدأ مِن طبيعة الظاهرة الوجودية، وينتهي إلى ماهية الوجود . ورحلةُ الفيلسوف من الظاهرة إلى الماهية ، هي التي تَجعله يتحرَّك أُفقيًّا وعموديًّا في المجتمع ، فهو يعيش كأيِّ إنسان ضِمن الأُطُر الاستهلاكية ( الحركة الأُفقية ) ، لَكِنَّه يَعتبر الاستهلاكَ وسيلةً إلى حقيقة المعنى الإنساني وماهيةِ البُنى الاجتماعية ، ولا يعتبر الاستهلاكَ غايةً قائمةً بذاتها، وهذا يَدفعه إلى الغَوص في المعاني ، وتحليل عناصر الطبيعة المُحيطة به ( الحركة العمودية ) .
3
جميعُ القطارات تنطلق مِن نَفْس المحطة ( نقطة الانطلاق واحدة ) ، ولكنْ كُل قطار له مسار خاص وهدف مُختلف عن القِطار الآخَر ( نِقَاط الوُصول مُتعدِّدة ) . وهذه الفكرة تُجسِّد حقيقةَ العلاقة بين الإنسان العادي والفيلسوف ، فهُما يَنطلقان مِن نَفْس النُّقطة ( الظاهرة الاجتماعية ) ، ولكنهما يَصِلان إلى غايتَيْن مُختلفتَيْن تمامًا ، لاختلاف المسار ، واختلافِ البنية التحليلية للأحداث . الإنسانُ العادي يبدأ من الظاهرة الاجتماعية ، ويضيع في المتاهة الاستهلاكية ، حيث تُسيطر قيمة التَّسَلُّع على وجود الإنسان ، أي إنَّ الإنسان يُصبح سجينًا للسِّلَع، خاضعًا لقوانينها ، ويُصبح الحُلْم الشخصي للإنسان سِلعة ضِمن قانون العَرْض والطَّلَب . في حِين أنَّ الفيلسوف يبدأ من الظاهرة الاجتماعية ، ويُطبِّق آليات المنهج العِلمي في البحث ، فيصل إلى حقيقة الأشياء ، وماهية العلاقات، وخصائص الجوهر الإنساني، مِمَّا يَجعله يُفَرِّق بين الحُلم الإنساني والسِّلعة الاستهلاكية . وهذا التَّفريق ضروري لتثبيت الحقيقة المركزية في رُوح المجتمع ، وهي أن الإنسان لَيس شيئًا مِن الأشياء ، وليس تحصيل حاصل ، وإنَّما هو ضابط إيقاع الأشياء ، والعقل المُفكِّر الذي يضع الجُزء في منظومة الكُل ، ولا يُحطِّم الكُلَّ بحثًا عن مصلحة الجُزء .