سمير عادل يكتب لـ(اليوم الثامن):
الحزب والمسارات السياسية الشيوعية
دون بوصلة سياسية شيوعية تحدد المسارات السياسية في المنعطفات التاريخية لا يمكن الوصول الى الاشتراكية. نعم هنا نؤكد على الاشتراكية، التي هي الهدف الرئيسي لاي حزب شيوعي يمثل الصف الواعي للطبقة العاملة، ويتبنى منهجية ماركس منهجية البيان الشيوعي و الايديولوجية الالمانية وراس المال دون اي لف ودوران، الذي اعتاد عليه اليسار غير العمالي بكل تلافيفه وتياراته السياسية. بالغاء الاشتراكية من اجندة اي حزب وتحت أية مبررات كانت مثل “القاعدة التكنيكية الاقتصادية للمجتمع غير ملائمة، الظروف الموضوعية غير متوفرة، المجتمع متخلف، الجماهير غير مستعدة لذلك، الاولوية لمحاربة الاستعمار والامبريالية، تحرير فلسطين اولا..الخ من تلك الترهات”، نقول ان هذا الحزب الذي يحمل يافطة الشيوعية ليس بشيوعي وليس له اية علاقة بالشيوعية لا من قريب ولا من بعيد.
وبهذه المانسبة حول الاشتراكية، فقبل الخوض في تفاصيل الموضوع اعلاه، ما أن كتبنا في احدى المقالات ان بديل انهاء كل الاوضاع السياسية في العراق هو الاشتراكية، لم يعترض علينا اي احد من البرجوازية بتياراتها السياسية ما عدا لفيف من اليسار الذي ساق المبررات التي ذكرناها. ان البرجوازية عندما ترفع تياراتها السياسية شعارات معادية للانسانية او برنامج يعود بالمجتمع قهقري إلى الوراء أو المطالبة بتنفيذ برنامج اقتصادي يفرض الافقار على غالبية المجتمع مثل برامج ومشاريع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تمر مرور الكرام، ولا تقلب الدنيا وتقعدها مثلما تقلبها على الشيوعيين عندما يرفعون شعار (الاشتراكية هي البديل). فخذ مثلا شعار (الاسلام هو الحل) الذي رفعته القوى الاسلامية منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، فهو اي الشعار معادي حتى العظم لتطلعات وأماني البشر من اجل حياة حرة وكريمة، هذا ناهيك عن أن أجندة تلك القوى مليئة بالاجرام و معادية للحريات الانسانية والنساء والاطفال من اجل تحقيق برنامجها شعار (الاسلام هو الحل)، إلا ان التيارات اليسارية الماركسية لم تنبس ببنت كلمة مثلما ترفع عقيرتها تجاه شعار (الاشتراكية هي الخلاص والمنقذ للبشرية).
لنعد الى موضوعنا وهو البوصلة السياسية الشيوعية التي دونها لا يمكن الحفاظ على استقلالية الطبقة العاملة وافاقها السياسية، ولا يمكن تجاوز المسارات السياسية التي تفرضها البرجوازية تارة في صراعها السياسي مع الطبقة العاملة لادامة سلطتها السياسية ، وتارة اخرى في صراعها مع أجنحتها ومحاولتها جر المجتمع برمته الى جانب هذا الجناح او ذاك، وبالتالي للحفاظ على الواقع الطبقي لاستمرار ربحيتها واستلابها للحقوق الأساسية للجماهير العمالية والكادحة التي تشكل الاغلبية المطلقة للمجتمع.
أن البوصلة السياسية للبرجوازية بتياراتها المختلفة تتجه دائما للحفاظ على سلطتها السياسية بكل الأشكال الممكنة وآلاليات المتنوعة، مثل تقويض كل الحريات السياسية والانسانية بكذبة الديمقراطية كما هو حاصل في العراق وحصرها بصندوق انتخابي تغلقه الميليشيات وهي من تفتحه، او استخدام يافطة الحفاظ على الامن القومي او الوطني لسحق الحريات، أو بإشعال حرب أهلية بعناوين اما قومية او طائفية او دينية، او بإشعال حرب عبر الحدود القومية، او بعقد اتفاقيات اقتصادية مع المؤسسات والشركات الدولية والعالمية لفتح الاسواق المحلية امامها وتوفير الشروط لتشديد ظروف العمل وفرض ابشع انواع الاستغلال على العمال كي تدر ارباح وفائض قيمة عليها، او اقامة دكتاتورية فاشية..الخ. وطبعا وفي كل مسار سياسي هناك ترهات العناوين التي تنظم حملتها الانفة الذكر لتعبئة المجتمع وتسويق أجندتها.
إن درجة دقة البوصلة السياسية ومعيارها بالنسبة للشيوعيين يعتمد في اخذ بنظر الاعتبار المصالح المستقلة للطبقة العاملة وتحصينها فكريا وسياسيا في كل لحظة من لحظات الصراع الطبقي الذي يظهر مرة بشكل هادئ ومستتر واخرى بشكل مكشوف وعلني كما يعلمنا ماركس. وفي عالم تسيطر البرجوازية على جميع مقدرات المجتمع، وعلى الاعلام، وعلى شراء الأقلام المأجورة، وعلى الحرفية في صناعة الدين والقومية والطائفية لنشر خرافاتها في صفوف الطبقة العاملة وفي المجتمع، تضع على عاتق التيار الشيوعي والحزب الشيوعي مسؤولية كبيرة لصيانة الصف المستقل للطبقة العاملة وخاصة في المنعطفات السياسية والتاريخية في المجتمع.
موقف لينين من الحرب الامبريالية العالمية الاولى نموذجا:
إن أممية لينين ومنهجيته الماركسية تكمنان في المنعطف التاريخي الذي مر بالبشرية خلال الحرب العالمية الاولى، هي بتوجيه نقد سياسي لاذع ضد برجوازية بلده روسيا، واشار بشكل واضح ودون اي تردد او مجاملة وبحزم ماركسي، ان البرجوازية الروسية لها اطماعها الاستعمارية في حربها الامبريالية ومشاركتها فيها، وان عمال روسيا ليس إلا وقود في تلك الحرب الامبريالية، وعلى عمال روسيا وعمال البلدان المتحاربة بتوجيه فوهة بنادقهم إلى صدور البرجوازيه بدلا من توجيهها الى صدور عمال البلدان التي تحاربها. ان مساعي لينين الحثيثة بالدعاية والتحريض وتنظيم صفوف عمال روسيا كانت تكمن بفصل آفاق ومصالح عمال روسيا عن برجوازيتها، وعدم إعطاء الفرصة للبرجوازية في نثر أوهامها في صفوف العمال والمجتمع. ان “الوطن والوطنية” التي حولتها البرجوازية في كل مكان في العالم الى جنة وهمية سواء في الارض من قبل تياراتها القومية أو في السماء من قبل قواها الاسلامية، ضربها لينين بعرض الحائط وفضحها سياسيا وقام بتعرية ديماغوجيتها التي هي ابدا من أجل خداع العمال بشكل خاص والجماهير بشكل عام وسوقها الى محرقتها كي تعيش البرجوازية جنتها الحقيقية. هذه هي بوصلة لينين السياسية التي عبدت الطريق الغير السالك للوصول الى السلطة السياسية او ايصال الطبقة العاملة الى السلطة السياسية، والتي هي وسيلة لتحقيق الاشتراكية وبغض النظر عن تحقيقها من عدم تحقيقها.
لقد دحض لينين كل ترهات المفكرين البرجوازية بأن الطريق الى الاشتراكية غير سالك في روسيا، او الطريق نحو السلطة السياسية غير سالك وتحت المبررات السخيفة التي ذكرناها في بداية المقال، والتي تعني تكبيل ايادي الطبقة العاملة وتسليم مصيرها على طبق من الذهب للبرجوازية.
البوصلة الشيوعية في أحداث العراق:
ومن هذه المنهجية، اي منهجية لينين، كانت تؤشر بوصلة الشيوعية العمالية التي أنار دربها منصور حكمت في المنعطفات التاريخية التي مرت بالعالم وكان العراق واحد من الساحات الرئيسية لها. فقد بينت الشيوعية العمالية بشكل واضح ان دخول العراق الى الكويت ليس نهاية العالم، وان العراق ليس أول دولة تقوم باحتلال دولة اخرى، ومن الممكن حل هذه المشكلة في إطار الجامعة العربية على الأقل. وما تسعى لها الولايات المتحدة الامريكية ليس له اية علاقة باحتلال العراق للكويت. فهي اي أمريكا دخلت بنما وبريطانيا دخلت جزر فوكلاند الارجنتينية والاتحاد السوفيتي دخل افغانستان وعشرات الامثلة الاخرى. ولذلك وقفت الشيوعية العمالية بكل حزم ضد سياسة الولايات المتحدة التي اصطفت الى جانبها جميع القوى السياسية في العالم وسياستها الحربية التي كانت تبغي إرساء نظام عالمي جديد بقيادتها. وعلى اساس هذا المسار السياسي الذي اتخذه كان للحزب الشيوعي العمالي موقفا سياسيا واضحا ضد سياسة الحصار الاقتصادي على العراق. فموقفه لم ينبع من زاوية أخلاقية فحسب، بل كما تنبأ الحزب ان هذه السياسة من شأنها تقوية الرجعية في العراق والنيل من الإرادة الثورية للجماهير، وتحولها الى فريسة سهلة سياسيا وفكريا واجتماعيا للقوى القومية والاسلامية المتعفنة، وسيحول المجتمع الى لقمة سائغة بيد العصابات الاسلامية والقومية الرجعية. لقد سعى الحزب عبر اذاعته التي كانت تبث من كردستان العراق وبعد ذلك من لندن وعبر صحافته فضح سياسة المعارضة البرجوازية العراقية المؤيدة للحصار الاقتصادي، وهي التي وصلت اليوم الى سدة السلطة بفضل بساطيل المارينز الأمريكي التي داست على ما بقى من الاحياء من جماهير العراق سواء من حربين مدمرتين او من حصار اقتصادي وحشي، انها ايدت بكل قوة وصفقت للحصار الاقتصادي بحجة اضعاف نظام صدام حسين، في حين استغل ذلك النظام المجرم الحصار الاقتصادي وجوع الجماهير ليرسخ نفسه سياسيا وامنيا ويبني عشرات الجوامع والمساجد على البطون الخاوية للملايين من المتضورين جوعا من العراقيين ويمارس كل سياساته الفاشية والمجرمة في المجتمع. إن حروب امريكا على العراق وحصارها الاقتصادي هي من خلقت الأرضية الاجتماعية والبيئة السياسية لسلطة الإسلام السياسي الشيعي الفاسدة والمجرمة التي تجثم على رقاب جماهير العراق.
وهكذا كانت نتائج تلك السياسات حرب اهلية طائفية ثم سيناريو داعش. وفي كل المحطات التي مرت بالعراق كانت بوصلة الشيوعية او بوصلة الحزب الشيوعي العمالي العراقي هو النضال دون هوادة بفصل مصالح الطبقة العاملة عن ترهات البرجوازية المحلية والعالمية ومصالحها الانانية، وفي تعبئة الطبقة العاملة وعموم المجتمع نحو اتخاذ مسار سياسي مستقل دون أية مواربة أو تردد والوقوف ضد خندق الأطراف البرجوازية المتصارعة. وحتى في مواجهة الاحتلال الامريكي للعراق، لم يقف الحزب لا في خندق القوميين والبعثيين ولا في خندق الاسلام السياسي الذي اصطف طيف واسع من اشباه اليسار وخاصة القومي معه تحت عنوان “محاربة الامبريالية الامريكية” ، بل وقف ضد الطرفين بشكل حازم وادان التفجيرات الارهابية التي قتلت الاف من جماهير العراق تحت عنوان محاربة الاحتلال. ولم يكن تشكيل مؤتمر حرية العراق الا تكتيك سياسي وجزء من سياسة ماركسية واضحة ضد إرهاب الاحتلال والارهاب الاسلامي، والعمل على فصل الآفاق النضالية للجماهير عن المسارين المذكورين وتعبئة عموم المجتمع ضد هذين القطبين الإرهابيين.
ما اشرت اليه هو جزء من تاريخ الشيوعية العمالية وليس هناك مجال للتفصيل بكل المحطات والمسارات السياسية التي حددتها خلال المنعطفات التاريخية التي مرت بالمجتمع الإنساني. الا انه سنخصص جزءا آخرا لموقف الحزب الشيوعي العمالي العراقي والمسار السياسي الذي حدده لاهم حدثين في المنطقة من خلال تناول موضوعتي الثورة والانتفاضة، حيث وكالعادة ضاعت بوصلة اليسار الماركسي غير العمالي تجاهما، ليجدد ذيليته للتيارات البرجوازية. ذلك الحدثان هو الانقلاب العسكري الذي قاده العسكر في مصر باسم الثورة عام ٢٠١٣، والحدث الآخر تحويل سورية إلى ساحة حرب وكالة دولية تمثلها العصابات الاسلامية من كل حدب وصوب. وساعرج أيضا على انتفاضة أكتوبر التي انقسمت التصورات والمواقف العملية حولها مابين ثورة وحركة رجعية يجب ادارة الظهر لها.