محمد خالد الأزعر يكتب:
منظمة عالمية وإدارة غاضبة وبينهما جائحة
لا ينبغي الاستخفاف بتداعيات موقف إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب شديد السلبية تجاه منظمة الصحة العالمية. هذا ليس فقط لأن الولايات المتحدة هي الممول الأكبر لموازنة المنظمة، وإنما أيضاً وأساساً لوجود سوابق لواشنطن في التأفف من، ومحاولة إضعاف أو حتى تقويض، المنظمات الدولية التي تستشعر استقلالها أو معاكستها لسياساتها، الأمر الذي أدى إلى انهيار بعضها، كعصبة الأمم غداة الحرب العالمية الأولى، وأوقع بعضاً ثانياً كـ«اليونسكو» ومنظمتي التجارة والطاقة الذرية العالميتين، ومجلس حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية، قيد العمل والحركة على صفيح ساخن.
تربع الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي، وكونها القطب الأكثر تأثيراً وتغلغلاً في معظم القضايا الدولية الساخنة بمختلف المعاني، واستحواذها على حجم هائل من موارد القوة بالمفهوم الشامل، قياساً بمختلف الخصوم والمنافسين والحلفاء والأنصار على حد سواء، أطمعها في فرض رؤاها وكلمتها على الأطر والمنظمات متعددة الوظائف والتخصصات في جهات الدنيا الأربع.
النزوع الأمريكي للي أذرع هذه الأطر والمنظمات، بما فيها الأمم المتحدة، ظاهرة أقدم من الملاسنات الغاضبة والاحتجاجات والملاحظات السلبية التي عرضتها إدارة ترامب في وجه منظمة الصحة. كل ما في الأمر أن هذه الإدارة مارست هذا النزوع بحيثية خشنة بالغة الفجاجة، متخلية عن اللياقة الدبلوماسية والدعائية، التي طالما غلفت مقاربات أسلافها، ولم يسلم من هذا السلوك منظمات موصولة مع واشنطن بعلاقات حميمة منذ عشرات السنين كحلف الناتو والاتحاد الأوروبي.
في هذا السياق، ضمن ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو خطابيهما تجاه المنظمة، ألفاظاً وتعبيرات تتجاوز النقد اللين اللطيف، إلى ما ينم عن الكراهية والتجريح والقدح في ذمة القائمين عليها، وصولاً إلى وصفهم بأنهم «دمى في يد الصين، متواطئون معها وفاشلون يفتقدون للكفاءة ولا يؤدون دورهم بحيادية وتجرد.. وهم بذلك ومنظمتهم ساهموا في تضليل العالم بشأن تفشى فيروس كوفيد 19، وتسببوا في تحوله إلى جائحة عالمية».
بمنهج تحليل المضمون، نكتشف بسهولة حجم التعالي والاستعلاء الذي وشى هذا الخطاب إزاء منظمة دولية، لا تخضع في الأصل لسيادة واشنطن ولا هي مطالبة بالانصياع للتعليمات الأمريكية وحدها، لكن المدهش حقاً أن الرئيس ترامب ظهر في مداخلاته بهذا الخصوص وكأنه لا علم له بطبيعة هذه المنظمة.
ففي أحد تصريحاته قال بعد أن أشبع كلماته قدراً كبيراً من الجفاف والجفاء «لقد فشلت المنظمة في إجراء الإصلاحات التفصيلية التي طالبت بها، وتواصلنا معهم مباشرة، لكنهم رفضوا فعل شيء. وعليه، فسننهي علاقتنا بهم ونوجه الأموال لاحتياجات طبية في أنحاء العالم». يتحدث الرجل للمنظمة بلغة أوامرية قد لا تليق حتى بتعامله مع إحدى حكومات الولايات التابعة للعلم الأمريكي.
لا يمكن القطع بأن أعمال منظمة الصحة، قبل الجائحة الراهنة وبعدها، قد التزمت بالطهرية والمثالية، ونحسب أن شأنها في ذلك يبقى شأن أطر دولية وعالمية أخرى، تلوثت أطراف أثوابها بشبهات التحيز والفساد. غير أن ما يفهم من التهجم الأمريكي على هذه المنظمة، لا يتعلق في جوهره بالتدقيق في صدقية هذه الشبهات تحت ذريعة مطاردة الفساد والمفسدين في الأرض، وإنما ينطلق من السعي إلى تسييس وظيفتها واتخاذها مطيّة للنيل من المنافس الصيني الصاعد الواعد في مجالات أخرى.
مثل هذا الفهم، الذي نظنه صحيحاً، ساق أطرافاً نافذين في أوساط العلاقات الدولية إما إلى الرفض الكلي للموقف الأمريكي، كالصين ذاتها وروسيا، وإما إلى إبداء القناعة بضرورة إصلاح المنظمة مع التحفظ على مسألتي حجب التمويل عنها أو مغادرتها. ويصح إدراج معظم دول الاتحاد الأوروبي ضمن هؤلاء الموافقين بتحفظ «ترامب محق بشأن عيوب المنظمة الإدارية والمالية. ولكن الاستغناء عنها وإنشاء بدائل لها شيء مختلف تماماً».
نحن إزاء مؤسسة تضطلع بدور إيجابي فارق، ما كان يمكن للعالم بحال الاستغناء عنه في التعامل مع الجائحة الراهنة. وكم يبدو مستنيراً من يأخذ بحكمة وزير الصحة الألماني ينس سبان، وهو يعلق على غضبة ترامب من هذه المؤسسة «لا يمكن الحديث عن إصلاح فريق الإطفاء أثناء اشتعال الحريق».