أكدت معاهدة السلام بين الإمارات العربية المتحدة ودولة إسرائيل، التي أُعلنت بعد المكالمة التي أجريت بين الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو، أمرين أساسيين هما، وقف ضم إسرائيل للأراضي الفلسطينية، ووضع خارطة طريق لإقامة علاقات بين دولة الإمارات وإسرائيل.
لم يكن الأمر مفاجئا لشعب الإمارات، لأنه يعلم بتعاون الدولة مع كل دول العالم، وبانفتاحها وتواصلها مع مختلف الشعوب، من أجل تحقيق الخير والنماء للجميع، لأنها لا تهمش أي دولة، مهما اختلفت عنها أو لم تتوافق معها في التوجهات السياسية.
كما أن إسرائيل، دولة عضو وكالة الأمم المتحدة للطاقة المتجددة آيرينا، ومقرها أبوظبي، منذ 2011، وسبق للدولة أن استقبلت مشاركات رياضية إسرائيلية في مسابقات الجودو مثلاً في 2017، وفعاليات أخرى. أضف إلى ذلك ثقة الشعب في قيادته السياسية، هذه الثقة التي شكلت أرضاً صلبة بنيت على مدار سنوات، تمتع فيها الشعب وبفضلها بثمار الرخاء والتنمية.
إن القيادة السياسية في الإمارات، بفضل ما تتمتع به من بعد نظر وحكمة، على ثقة أن التجربة الإماراتية في العلاقات مع إسرائيل لن تستنسخ أي تجربة عربية سابقة، و ستقرؤها قراءة فاحصة وواقعية مستفيدة من نقاط قوتها، متجنبة ما فيها من نقص، بعين فاحصة، وعقل يملك أدوات التفكير الصحيحة العلمية والذكية، وبقلب مدرك وواع.
وستعكس هذه المعاهدة الرؤية العميقة، رؤية الصقر، للشيخ محمد بن زايد، التي تُبصر أكثر مما يراه الآخرون، وأبعد منهم لأنها رؤية القائد الذي يفكر ويعمل، بواقعية وبجودة استثنائية، من أجل وقف ضم الأراضي الفلسطينية، ثم تحريك عملية السلام نحو آفاقها الإيجابية، بعد أن كانت تراوح مكانها، وهي واحدة من ثمار الرؤية والتوجه، إضافة إلى إقامة علاقات بين الدولتين.
إن القيادة لدى للشيخ محمد بن زايد آل نهيان، قيادة مؤثرة إيجابياً، تضيف قيمة حقيقية على أرض الواقع العربي بشكل عام، والفلسطيني بشكل خاص، من أجل تحويل التحديات إلى فرص، ولدفع المحادثات بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى الأمام.
هي رؤية واقعية تبحث عن الفرص الممكنة، متجاوزة الحدود الوهمية، التي رسمها من تاجر بالقضية الفلسطينية، بما في ذلك دولتين معروفتين، وأخرى خليجية، لم تقدم جميعها شيئا للقضية الفلسطينية سوى تأجيج مشاعر الناس في دولهم، لكسب الانتخابات ومهاجمة الإمارات بمناسبة ودون مناسبة، لأنها تحارب الإرهاب الذي يدعمونه. في جعجعة صاخبة، بلا أي فائدة، أو كما يقال: "أسمع جعجعة ولا أرى طحناً".
وفي هذا السياق، لنا أن نتساءل صراحةً عما استفاده العرب والقضية الفلسطينية من مقاطعة إسرائيل أكثر من سبعين عاماً، لا شيء على الإطلاق؟ خلال سبعين عاماً خاض العرب والإسرائيليون أكثر من حرب؟ وبعدها بسنوات وقعت معاهدات سلام، وبعض اتفاقيات التعاون التجاري.
قدّمت الدول العربية الدعم الإنساني بمختلف جوانبه للفلسطينيين في فلسطين ذاتها، وفي مخيمات اللاجئيين، لكن أكثر من خدم القضية الفلسطينية على الصعيد السياسي هم الذين وقعوا معاهدات سلام مع إسرائيل، ما أعطاهم فرصة وإمكانية التحدث إليها، والتباحث معها في ما يجب فعله، ولا يجب، محققين بعض النتائج، للفلسطينيين أنفسهم قبل غيرهم.
ألم تفعل ذلك مصر بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل التي استعادت فيها سيناء، أليست مصر داعما وسيطا بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟
ألم يدعم الأردن ولا يزال، بما أوتي من جهد القضية الفلسطينية، وهو الذي وقع معاهدة وادي عربة في 1994، التي رسمت أخيراً حدود الأردن مع إسرائيل، وأقامت السلام والاحترام بين الدولتين الجارتين، فحُلّت بذلك القضايا العالقة بينهما، وأقرت إسرائيل للأردن بالإشراف على الأماكن المقدسة في مدينة القدس. وقبلها بعام، في 1993 وقعت السلطة الفلسطينية نفسها معاهدة الحكم الذاتي في قطاع غزة والضفة الغربية، مع إسرائيل.
ومن جهتها عرضت مبادرة السلام العربية في 2002 ببيروت، مبدأ الأرض مقابل السلام، والقدس الشرقية عاصمة فلسطين، في تأكيد صريح على تمسك العالم العربي برمته بحقوق الشعب الفلسطيني، والتمسك بدعمه والوقوف إلى جانبه حتى الحصول على حق تقرير المصير، وإقامة الدولة، وعاصمتها القدس.
وإذا كانت هذه جهود الدول العربية مجتمعةً، أو منفردة بهذا الشكل، فإن السؤال سيكون حتماً ما الذي أنجزته في الأثناء الإدارة الفلسطينية على أرض الواقع على مدار سنوات طويلة؟ ما الذي اعتمدته فأحدث فارقاً لدى عامة الناس هناك؟ ولماذا أصبح الفشل يلي الفشل في المفاوضات أو في أي مجال آخر، مع الإصرار على أن إسرائيل المسؤول الوحيد عن الأزمة، وعن تعثر الوضع، وترديه؟
إن معاهدة السلام الإماراتية الإسرائيلية المنتظرة، وبالنظر إلى هذا السجل من النجاح العربي النسبي والفشل الفلسطيني الكامل، ستكون لبنة جديدة في العمل الدبلوماسي والسياسي. فهي ستساهم بلا شك في تحريك القضية الفلسطينية وإخراجها من الجمود الذي يغلب عليها، على الأقل بوقف ضم الأراضي، وستفتح المجال لإقامة علاقات طبيعية بين الإمارات وإسرائيل، وليس في ذلك من مستغرب في الواقع إلا بعض المواقف الفلسطينية الرسمية، التي كشفت بالمناسبة قصور نظر سياسي وسوء تقدير للأمور.
فالبيت الفلسطيني المنقسم على ذاته منذ أعوام، اتفق أخيرا على رفض هذه المعاهدة، لماذا؟ لأن الإدارة السياسية الفلسطينية لم تهندسها، ولم تكن عرابا لها. فهي إدارة تحافظ على تنظيمها ووجودها، لكنها تفتقر لأهم مبادئ القيادة، أي المبادرة والتأثير في الواقع وفي الشعب والوضع العام.
إن كل ما نجحت فيه السلطة الفلسطينية اليوم، إلى جانب الإخفاق السياسي الذريع، العجز عن التصدي لأبسط احتياجات مواطنيها، فلا هي قادرة على دفع رواتب الموظفين مثلاً، ولا على ضمان أبسط مقومات الحياة الكريمة في المناطق التي تديرها، فضلاً عن مسؤوليتها المباشرة في تهميش الحضور الفاعل للقضية الفلسطينية على الصعيد العالمي.
والثابت أن السلطة إذا استمرت في هذه الاستراتيجية الخاسرة، فإن كل ما ستحصل عليه في النهاية سيكون مراكمة الخسائر، إلى جانب اهتراء علاقتها بالفلسطينيين أولاً وبالعرب ثانيا، وبدول العالم ثالثاً، وفي المقابل لن يمنع ذلك لا الإمارات أو غيرها من الدول العربية، غداَ ربما، من الاهتمام بمصالحها ومصالح شعبها أولاً، بإقامة علاقات تعاون بينها وبين إسرائيل.
وفي ظل الضوضاء الفلسطينية وغيوم التشكيك والتطاول، تظل هناك حقيقة واحدة لكنها واضحة وضوح الشمس، وهي أن الإمارات لا تبحث عن مسوغ للإقدام على توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، و لا تحتاج مبرراً لذلك، لتساهم من موقعها في دفع السلام خطوة للأمام، لسبب بسيط يدركه أي عاقل، وهو أنها دولة مستقلة ذات سيادة، تملك قرارها في يدها، ولا تحتاج رأياً أو قراراً في يد غيرها، لتنفذ ما ترى أنه يخدم مصالحها الوطنية، وعلاقاتها الإقليمية والدولية، خاصةً أنها تدرك جيداً مدى وحجم دورها وتأثيرها عربياً، وإقليمياً، وعالمياً، سعياً من للخير وخدمة منها لقيم المحبة والسلام بين البشر.