رسم كثير من العرب صورًا ذهنية متناقضة عن إسرائيل، حددت أسلوب ونوع التعاطي مع القضية الفلسطينية طوال حقب الصراع العربي مع الدولة اليهودية.
ففي مستهل القرن الماضي سيطرت فكرة المؤامرة الكونية التي يديرها اليهود، على الأذهان، عندما نشرت روسيا القيصرية كتاب بروتوكولات حكماء صهيون، الذي تضمن وصفًا تفصيليًّا محكمًا لما قيل إنه الخطة التي رسمها حكماء اليهود في مختلف مناطق تواجدهم، ومختلف القطاعات المالية والاقتصادية والإعلامية التي يعملون بها، للسيطرة على العالم، والكيفية التي يوظفون فيها كل ذلك لخدمة المشروع الصهيوني، الرامي لإقامة وطن لليهود في فلسطين.
وقد تلقفت كثير من القوى السياسية العربية والعديد من الأحزاب الدينية ذلك الكتاب وعممته في أدبياتها كجزء من عملية التجنيد، والحشد لأنصارها، واستقطابهم لبناء شعبية لها في الشارع، ولدعم رؤيتها النظرية والأيديولوجية، والترويج -لاحقًا- لآليات عملها .
كان ظاهر الترويج لبروتوكولات حكماء صهيون، مؤثرًا للدرجة التي بات فيها كثيرون، ينظرون للمشروع الصهيوني كمؤامرة كونية، تتضافر لتنفيذها دول، وقوى سياسية عديدة، تتلاقى حول مصالح ورؤى مشتركة لاقتسام المنطقة، والانقضاض على تراثها الحضاري والثقافي وتجريفه؛ خدمة لأجندة سياسية مرسومة، أو خطة معلومة.
كانت نجاحات المنظمة الصهيونية العالمية في حشد تأييد دولي -حتى بين قوى دولية متصارعة- لمشروع إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، دليلا لا يَحتمل الإنكار وأشبه بنبوة وهي تتحقق -بدأب ومثابرة- على أرض الواقع عبر عمل سياسي استقطب تأييد الغرب والشرق معًا – وعبر إعداد عسكري نشط سمح للمستوطنين اليهود -الذين أخذوا يتدفقون على فلسطين مع انتهاء الحرب العالمية الأولى- بإعداد قوة عسكرية مدربة، استطاعت دحر الجيوش العربية؛ حتى قبل إعلان قيام الدولة العبرية في مايو من عام 1948 وقبل أن تبدأ ببناء مؤسستها العسكرية الحديثة.
ومنذ ذلك الحين، والقضية الفلسطينة تتأرجح –عربيا– بين عمل عسكري منقوص، ومراهقة سياسية غير ناضجة.
باسم التحرير ، اعتلت الحكم قوى عسكرية دفعتها الحماسة والغيرة في البداية، قبل أن تستمرئ السلطة؛ لتغدو مهمة الاحتفاظ بها أولويتها الأولى، ومنع المنافسين، من الوصول إليها همها الأكبر، فصادرت من أجل هذا الحريات، وانتهكت بسببب ذلك الحُرمات.
أما في السياسة، فقد سيطرت المزايدات والشعارات على الخطاب السياسي العربي؛ سواء على المستوى المحلي أو على المستوى القومي، دون أن يكون هناك اهتمام حقيقي بمدى فاعلية هذا الخطاب، أو بمدى توافر الآليات العملية التي تحوله من مزايدة سياسية وإعلامية، إلى إستراتيجية عمل سياسي فعالة.
أزمة التعامل مع القضية الفلسطينية لم تبدأ اليوم ، وليست وليدة مواقف سياسية جديدة طارئة، أو مستجدات سياسية مفاجئة. بل هي تتويج لسلسلة من التجارب الفاشلة على صعيد المواجهة العسكرية والسياسية، وثمرة طبيعية للفشل في التوفيق بين العلاقات والمصالح الطبيعية والعادية للدول، وبين السياسات التي باتت تسيطر، وتؤطر علاقات المجتمع الدولي بعضه ببعض.
الأزمة التي تواجهها السياسة العربية اليوم، سببها -أيضا- التناقض الواضح بين المصالح والأولويات الوطنية، والتهاون في معالجة الخلل في التركيبة السياسية والاجتماعية العربية، التي سمحت لقوى خارجية بالسيطرة على قرارها، وبث الفرقة والتناقض في هذه التركيبة؛ حتى بات الأمر أشبة بالمتلازمة المَرضية التي تعطل المبادرات والسياسات العربية حتى الآن.
إذا كان هناك مَن يبحث عن خطيئة فيما نشهده حاليًّا مِن تطورات سياسية أو مستجدات، فإن عليه أن يبحث أولًا عن مَن يتحمل وزرها الحقيقي، دون أحكام مسبقة، ودون تصنيف سياسي أو أيديولوجي موهوم .
فالأزمة قديمة، يتحمل مسؤوليتها تاريخ من الفشل العسكري والإخفاق السياسي، الذي لم يتسبب في خسائرنا المتتالية فحسب، بل ساهم أيضا، برهن مستقبل أجيال كاملة بأوهام ، وضياع أوطان عريقة نتيجة طيشٍ بالقرار ، وإهدار موارد دون حساب أكبر بكثير من تلك التي أضعناها في فلسطين.
ويتحمل وزرها أيضا، مَن جعل من العمل السياسي لنصرة فلسطين لافتة إعلامية، لتحقيق أجندات ضيقة؛ لا وسيلة عملية تصل بنا إلى نتائج تخرجنا من حال المراوحة، بين عمل عسكري مُحال، وبين جهود سياسية لا تملك رؤية سياسية حقيقية، ولا آليات عمل ناضجةً توقف إهدار المَزيد من الموارد، والكثير من الوقت.