تاج الدين عبد الحق يكتب:
نهاية للصراع أم مرحلة جديدة؟
دأبت إسرائيل طوال عقود الصراع مع جيرانها العرب، على تقديم نفسها للعالم ككيان صغير، يحيط به عالم عربي معاد، يملك إمكانيات أكبر، وموارد أكثر .
وقد نجحت تل أبيب في تصدير هذه الصورة النمطية، واستثمار هذا التوصيف الجغرافي والديموغرافي، لإخفاء حقيقة الصراع وطبيعته، وفي تبرير تمسكها بالأراضي المحتلة، كذريعة أمنية، أو واقع استيطاني حياتي، فرض نفسه بالتقادم، ولم يعد بالإمكان تجاوزه والتراجع عنه.
لم يتوقف استثمار إسرائيل لحالة العداء التي ظلت سائدة بينها وبين جيرانها سواء القريبين منها، أو البعيدين عنها، عند حدود تسويغ، وتبرير الاحتلال للأراضي العربية، بل جعلت من حالة العداء تلك، ورقة لاستدرار تعاطف قوى كبرى، ومنظمات مؤثرة، تبارت في تقديم الدعم، والمساندة السياسية، والمعونات الاقتصادية السخية، لدرجة تمكنت إسرائيل بواستطها، من بناء قوة عسكرية قادرة لا على المحافظة على أمنها في مواجهة ما سوقته تل ابيب على أنه تهديد لوجودها، فقط، بل لتأكيد وضمان تفوقها الكامل والدائم، على الدول العربية مجتمعة.
حالة العداء -التي ظلت نظريا قائمة عقودا- ما لبثت أن تبدلت، إما عبر لقاءات خجولة خلف الأبواب الموصدة، وإما من خلال اتفاقات ثنائية رسمية باردة، لكن ذلك لم يبدد جو العداء الذي ظل يحكم علاقات الدول العربية بالدولة العبرية، إذ ظلت إسرائيل قادرة على استثمار ما كانت تعتبره ”عداءً مبطنًا “ لوجودها، لتكريس صورتها ككيان صغير، وضعيف مستهدف، وساعدها في ذلك تنامي حركات التطرف التي اتخذت من الدين ستارًا لخطابها السياسي والإعلامي، والذي كان مؤثرا للدرجة التي مكنته من ملء الفراغ الذي أحدثه تبدل الخطاب الرسمي العربي إزاء اسرائيل وظهور توجهات واضحة فيه تجنح للسلام، وتقبل ما كانت ترفضه من قبل .
لكن الواضح أن هذا التبدل جاء متأخرًا، ولذلك فإن العالم – الذي كان يشهد تغيرات عميقة في موازين القوى العالمية والتحالفات الإقليمية – لم يشعر بالتغير الذي طرأ على الموقف العربي، خاصة أن إيران أخذت تتصدر خطاب التطرف في المنطقة، وتتمادى في تبني خطاب التهديد والوعيد.
هذا التطور رمى لإسرائيل من حيث لا تحتسب، طوق نجاة من ضغط دولي باتجاه إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، ظهرت إرهاصاته الأولى، في اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، ثم اتفاقية وادي عربة مع الأردن، وفيما بعد اتفاقية أوسلو مع السلطة الوطنية الفلسطينية. وبدلًا من أن تتطور تلك الاتفاقيات وتتحول إلى استحقاقات ناجزة، بدأت عقود من المراوحة حول التفاصيل، التي زادت من حدة الشك، وعمقت الإحساس بعدم الجدوى.
اليوم يبدو أننا أمام مرحلة جديدة في التعاطي العربي مع القضية الفلسطينية، فاتفاقيات السلام الجديدة التي أبرمتها الإمارات والبحرين، والتي تتجه العديد من الدول العربية لعقدها مع إسرائيل، لا تتناول مباشرة القضية الفلسطينية، وإنما تعمل على ترتيب بعض المصالح الثنائية، والتي يمكن أن تشكل في المآل، بيئة مواتية، تسهم في مقاربة مختلفة للقضية الفلسطينية، والتي يعترف الجميع الآن، بما فيهم الولايات المتحدة واسرائيل، أن حلها هو الأساس والضمان المؤكد، لأي علاقات سلام دائمة ومستقرة في المنطقة.
بالطبع فالاتفاقيات الجديدة لا تحمل أي ضمانات، كما لا يوجد أي التزامات مسبقة واضحة، وهذا بالضبط ما جرى في المحاولات السابقة، فمصر عندما وقعت اتفاقية كامب ديفيد، كانت تعلم أن هناك خلافات كثيرة عالقة، لم تحل مباشرة بعد توقيع الاتفاقية، بل إن العمود الفقري في الاتفاقية وهو الانسحاب من سيناء لم يتم إلا بعد 3 سنوات، ناهيك عن أن الانسحاب من منتجع طابا المصري احتاج تنفيذه إلى حكم من المحكمة الدولية بعد 12 عاما من الاتفاق. والأمر نفسه حدث مع الأردن الذي واجه صعوبات في تنفيذ بعض تفاصيل اتفاقية وادي عربة، وتكرر الشيئ ذاته في اتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين.
لكن محصلة كل تلك الخطوات وضعت القضية الفلسطينية في مسار جديد جعل طرح إقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلت عام 67 طرحًا جديًّا رغم وجود خلافات كثيرة في التفاصيل.
في العادة لا يمكن للمرء استيعاب التغيير دفعة واحدة، لكن من المؤكد أن الاتفاقيات الجديدة بين الدول العربية وإسرائيل يمكن أن تشكل مقاربة مختلفة، وصياغة أخرى لمعادلة الصراع التاريخي بين العرب وإسرائيل. فمع الإعلان عن التزام لا مساومة عليه بشأن الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، فإن قدرة الدبلوماسية العربية على الساحة الدولية الآن، قد تكتسب زخمًا جديدًا قادرًا على التأثير، بشكل أكبر من تأثير الخطاب السياسي والإعلامي السابق الذي لم يفشل في إيجاد حل لمعاناة الفلسطينين فحسب، بل عجز عن إخراجهم من الدوامة التي ربطتهم بعجلة مواقف وأجندات سياسية وحزبية إقليمية، عطلت قدرتهم على استثمار فرص وإمكانيات تسوية، كادت تنحسر عنهم، دون أن يملكوا القدرة على مواجهة تبعات هذا الانحسار .