يوسف الديني يكتب:
90 عاماً: سردية السعودية الكبرى
غداً فصل جديد تكتب حروفه الأولى في تاريخ المملكة العربية السعودية، وهي تعيش أكثر لحظاتها بريقاً بفضل مخرجات «رؤية 2030»، وتجاوز أكثر أزمات المنطقة والعالم من «كورونا» إلى الاستقطاب السياسي إلى التحديات الاقتصادية، وصولاً إلى انكفاء الدول الإقليمية باتجاه معاكس لمنطق الدولة.
ملالي طهران وحزب الأزمات وحلفاؤهم من جهة ومشروع إردوغان التوسعي للهيمنة في المنطقة، وجنوح قطر إلى رعاية المعارضات والتنظيمات المتطرفة، وتغليب صوت التأزيم عبر الاستثمار في الإسلام السياسي وتنظيماته كل هذه المشاريع يجمعها رابط واحد وهو معاندة التاريخ والجغرافيا والمستقبل واللحظة الراهنة الكل بما لديه من آيديولوجيات لا تخدم مفهوم الوطن ومنطق الدولة، بما يعنيه من فضيلة الاستقرار والاهتمام بالاستثمار في المواطن، والانتقال إلى متطلبات العصر الجديد الذي تفرضه التحولات العالمية والتي جاءت رؤية قائد التغيير وملهم الأجيال الشابة الجديدة ولي العهد السعودي، الذي لم يكتف بتدشين رؤية جريئة وشاملة، لكنه أيضاً لم يتردد في القطيعة مع خطاب التطرف، وأي محاولة لاختطاف منطق الدولة من الداخل أو الخارج، والسعي إلى الجمع بين ثلاثية تأسيسية لسعودية جديدة كلياً، قوامها الحرب على مثلث الفساد والتطرف والاستهداف الخارجي، ومشاريعه التي تقوم عليها دول وأحلاف وضعت مشروع الأمير نصب أعينها، في محاولة للعب على الشعارات الدينية، والأزمات المفتعلة، ومحاولة جرّ السعودية إلى التوترات الإقليمية المأزومة.
والحال لم يواجه كيان سياسي في التاريخ الحديث بصورة سلبية، كما واجهتها السعودية عبر تلك الصورة النمطية التي تبرز إلى السطح، كلما تصدر اسم المملكة شاشات التلفزة ومواقع الإنترنت وسباق النشرات، وبشكل يتجاوز الحقيقة أو الاقتراب منها في فهم طبيعة وحراك المجتمع السعودي، بسبب ذلك التبسيط المخلّ المرتبط بالتعميمات المرسلة عن بلد فيه من التنوع والتعقيد، وتداخل السياق القبلي بالديني بالعرقي بالمناطقي.
ورغم ذلك استطاعت المملكة عبر مسيرتها الطويلة في التصدي للأحداث والصراعات السياسية والاستهداف، أن تتجاوز حفر الصور النمطية، بل وتحويلها إلى فرصة ومناخ صحي لاستجلاب الفرص، وإعادة ترسيم السعودية كرائدة في أهم مسألة يواجهها العالم، وهي ملف تفشي الإرهاب.
في تجربة الدولة السعودية عبر مراحلها الثلاث، كانت الشرعية تكتسب عبر تراكمات سياسية طويلة، تعززها تحولات اقتصادية واجتماعية هائلة باتجاه التقدم والإنجازات على الأرض، وكانت المهمة التي تصدى لها المؤسس الملك عبد العزيز منذ البدايات هي تفتيت الصورة النمطية في العلاقة بين السلطة السياسية والمجتمع، وذلك عبر إدماج الكيانات القبلية الكثيرة والمتشعبة ضمن مفهوم المجتمع الواحد، ليتأسس مع هذا الاندماج كيان الدولة الذي يشمل الحكومة والمجتمع والأرض المحكومة بالإرادة السياسية المبنية على شرعية الداخل، وهي شرعية تتجدد مع التحولات السياسية التي هي جزء من قدر أي دولة حديثة، ولذا كل تجاهل للتحولات الهائلة التي مرَّت بالسعودية في تأسيس مفهوم الدولة المبنية على شرعية الداخل، هي قراءة رغبوية للتاريخ.
أحد أهم عيوب «الصورة النمطية» التي نعاني منها في فهم طبيعة وحراك المجتمع السعودي، هو ذلك التبسيط المخلّ المرتبط بالتعميمات، وهي عادة ما تكون مناخاً صحياً لتكاثر الإشاعات والتكهنات السياسية التي تدعو أحياناً للضحك، مثل افتعال صراعات سياسية داخلية وخلافات يتم تصويرها والحديث عنها بشكل تفصيلي لا يمتّ إلى الواقع بِصلة، بقدر أنه يعكس تغلغل الصورة النمطية في قالبها السياسي.
أسئلة المنطقة بالأمس واليوم، رغماً عن كل هذه الفوضى السياسية التي نشهدها، ظلت في ملفات واضحة يدعمها الجديد، تتصل بتحديات تحسين الأوضاع الاقتصادية والمنافسة في سوق المال، ومحاولة معالجة الآثار المترتبة على الفقر المدقع، وانتشار الأمية والجريمة في بلدان الشرق الأوسط. وهي بالمناسبة اليوم باتت أسئلة «وجودية»، في كثير من البلدان التي يتوقع أن تنهار اقتصاداتها بشكل تختلف سرعته بمقدار المعونات التي تصلها، بسبب أن الحصة الكبرى من الناتج القومي والمداخيل مرتبطة بقدرة هذه الدول على جذب استثماراتها وسياحها، وتصدير الأكفاء من أبنائها ليعودوا بتحويلاتهم المالية التي تنعش الاقتصاد.
تحسين الأوضاع المعيشية قفز من عالمنا إلى العالم الأول، كما نرى في فرنسا، رغم ريادة الجمهورية في التأصيل للخطاب السياسي والحقوق والتعددية؛ لكن قدرتها على الاستقرار والحفاظ على الإرث التاريخي، باتت معلقة بالإجابة عن سؤال تحسين الأوضاع والعيش الكريم، وليس الفاعلية السياسية فحسب.
مفهوم المواطنة السعودي هو صمام أمانها في الأزمات في ظل غياب مفهوم المواطنة في كثير من تجارب الدولة الوطنية، التي مسها الكثير من التغير والتغيير بسبب عوامل كثيرة كانت «الثورات» بما تخلقه من فوضى طبيعية أحد أهم تحدياتها، وعكس ما كان في السابق من احتياج الباحث في الاجتماع السياسي والمفاهيم المجتمعية العامة إلى جهد ووقت كبيرين لفحص عينات من تحولات أفكار الفاعلين في المجتمع.
هناك سردية سعودية جديدة يجب أن تُكتب، بعيداً عن التاريخ السعودي المليء بالتحولات والذي يجب أن نتجاوز في كتابته ورصده وتوثيقه «الماجريات» والأحداث التاريخية إلى المفاهيم والملفات والتصورات الكبرى، بدءاً من إعادة الفاعلية والمركزية إلى سلطان الدولة ومؤسساتها بعيداً عن أي قوى أو كتل دينية أو اجتماعية أو اقتصادية من شأنها التأثير على مفهوم الاستقرار، وكيف أن التعامل مع المستقبل ووضع «رؤية 2030»، كحجر الأساس في النسخة السعودية الجديدة من سرديتها المعاصرة، صعّد من منطق الدولة ليعلو فوق كل التفاصيل الصغيرة والهامشية الأخرى.
السعوديون اليوم يستلهمون تمثيل الأمير الشاب ورؤيته الطموحة بجبل طويق في شموخه وقوته، ويستمعون إلى كلماته كلما تعرضت السعودية إلى استهداف أو تشكيك داخلي أو خارجي، لا أحد فوق منطق الدولة «كائناً من كان»، قرابة القرن على دولة طموحة تحاول القفز على كل التحديات والأزمات وإرادة لا تنضب وتتجاوز منسوب النفط الذي كان إكسير نهضتها، لكنها اليوم تجترح موارد وإمكانات تجمع بين الإنسان وجغرافيا وخيرات المكان والزمن الذي لا ينتظر العاجزين، دام عزك يا وطن.