إبراهيم أبو عواد يكتب لـ(اليوم الثامن):

الفرد والمجتمع في مواجهة التناقضات والصراعات

1

 

     اكتشاف الأنظمة الاجتماعية المسيطرة على حياة الفرد ، يستلزم معرفة مسار الفرد في المجتمع ، وطبيعةِ التناقضات في منظومة الحقوق والواجبات التي تحكم العلاقة بين الفرد والمجتمع. والتناقضات تكشف ماهيةَ المسار الفردي ، وحقيقةَ الجوهر المجتمعي ، واتِّجاهَ المشاعر الإنسانية، وهُوِيَّةَ الأنظمة الاجتماعية ذات البِنية السُّلطوية الحاكمة معنويًّا وماديًّا . والفلسفةُ الاجتماعية قائمة على دراسة الاختلافات والتناقضات والصراعات، وبِضِدِّها تتبيَّن الأشياء ، وتُعرَف أهميتها . فمثلًا ، في الصَّيف تُعرَف أهمية الشِّتاء ، وفي الشِّتاء تُعرَف أهمية الصَّيف. وهذا المثال ينسحب على كُل الثنائيات ، سواءٌ كانت في داخل الإنسان أَمْ خارجه . وبما أنَّه لا يُوجد مجتمع إنساني مثالي، ولا يُوجد فرد كامل، فإن تيارات فلسفية جديدة ستنشأ وتتكاثر لدراسة حالات النقص والتعارض والاختلاف والتَّضَاد ، وسوف تَبْرُز أفكار معرفية تقوم على تكوين الأُصُول الاجتماعية ، وربطها بالفُروع والتطبيقات على أرض الواقع . وبما أن المريض وَحْدَه هو الذي يحتاج إلى دواء ، فإنَّ اختبارات كثيرة ستظهر من أجل الوصول إلى الدواء الفَعَّال . وما ينطبق على الفرد ينطبق على المجتمع ، فكِلاهما كائن حَي ، يَمْرَضَان ، ويَبحثان عن الدَّواء مِن أجل الشِّفاء . والاعترافُ بالمَرَض هو الخُطوة الأُولَى للعلاج .

2

     كُلُّ فرد له حركتان في حياته : حركة في داخل ذاته ، وهي انتقال عَبر الأفكار والمشاعر والصراعات النَّفْسِيَّة ، وحركة في داخل مُجتمعه ، وهي انتقال عَبر الضغوطات الحياتية والقيم الاستهلاكية والحاجات البيولوجية . وإذا سَيْطَرَ الفردُ على نَفْسه ، سَيْطَرَ على عناصر البيئة المُحيطة به . وإذا نَجَحَ في صناعة الحُلْم في داخله ، نَجَحَ في صناعة مُستقبله في الحياة . والطموحاتُ الفردية لا يُمكن أن تتحقَّق واقعًا ملموسًا إلا بإزالة كافة الحواجز بين الفرد والمجتمع ، وفَتْحِ الحُلْم الفردي على مِصْرَاعَيْه أمام أمواج المجتمع ، كي تحدُث عملية الاندماج والتمازج بين الأنا والآخَر في المجتمع الواحد ، فالفردُ جُزء مِن المجتمع ( الكُل ) ، والجُزءُ لَيس له وُجود بدون الكُل . وشرعيةُ الغُصن مُرتبطة بوُجوده في الشجرة ، أمَّا إذا رُمِيَ الغُصن على الرَّصيف ، فَسَوْفَ تَسحقه أقدام المَارَّة ، ولَن يُدافع عَنه أحد .

3

     لا مَفَر مِن تعامل الفرد مع الصراعات النَّفْسِيَّة والتناقضات الاجتماعية ، كما أنَّه لا مَفَر مِن تعامل الرُّبَّان مع البحر المُتلاطم الأمواج . والسَّفينةُ هي التي يجب أن تتأقلم معَ البَحْر ، وليس العكس ، لأنَّنا نَملِك سُلطة على السَّفينة ، ولا نَملِك سُلطة على البحر . وهذه الفكرةُ ينبغي أن يَستوعبها الفردُ في حياته الاجتماعية ، كَي يُميِّز بين الظروف التي تَحْكُمنا ( الظروف الحاكمة ) ، والظروف التي نَحْكُمها ( الظروف المحكومة ) ، وكَي يُفرِّق بين الأشياء التي نَكون فيها مُسيَّرين ، والأشياء التي نَكون فيها مُخيَّرين . وهذا الأمرُ ضروري لأنَّه يُريح الفردَ ذهنيًّا وجسديًّا ، ويُحرِّره مِن الضغوطات الفكرية والاجتماعية ، ويَدفعه إلى الاستثمار في المُمْكِن ، وعدم إضاعة وَقْته في المُستحيل. ولا يُمكن للفرد أن يُنَاطِح المُجتمعَ، ولا يَقدِر أن يُصلِح العَالَمَ ، لأنَّ العَقْلَ الجَمْعي أقوى مِن العَقْل الفَرْدي . وهذه لَيست دَعوة إلى الكسل واليأس ، ولكنها دَعوة إلى ضرورة معرفة الفرد لإمكانياته ، وعدم تَضييع جُهده في معارك خيالية خاسرة . ومعَ هذا ، يَنبغي على الفرد أن يَترك بصمته الشخصية في سبيل علاج مُشكلات المُجتمع والعَالَم ، دُون أن يُحمِّل نَفْسَه مسؤوليةَ إصلاحهما . والفردُ لَيس وَصِيًّا على الناس، ولا مسؤولًا عن أعمالهم ونتائجها، ولَكِنَّه مُطَالَب بمُساعدة الناس ، وتَسليط الضَّوء على أخطائهم ، وتقديم حُلول ناجعة لإصلاحها، ونشر الوَعْي في المجتمع. ودورُ الفَرد مَحصور في إضاءة الشَّمعة ، وليس إجبار الناس على المَشْي في الطريق . وكما أن تَحويل مَجرَى النهر لا يَكون بالسِّباحة ضِد التَّيار، وإنَّما يَكون ببناء السُّدود ، كذلك عملية نقل المجتمع الإنساني من التخلف إلى التقدم ، لا تكون بتحدِّي المجتمع ومُحاربته والوقوف ضِدَّه ، وإنما تكون ببناء الوَعْي ونشر ثقاقة الإبداع . وكما أن الشاعر يستطيع العثور على مواطن الجَمَال في الأشياء القبيحة ، وكتابة قصيدة جميلة عن شيء قبيح ، كذلك الفرد يستطيع العثور على المعاني الإنسانية داخل المجتمع القاسي ، وإيجاد أنظمة فكرية منطقية داخل الفوضى المجتمعية .

4

     النظام الاجتماعي الحقيقي هو ترتيب لعناصر الفوضى وسيطرة عليها ، ولَيس حَذفًا لها، لأنَّها _ ببساطة _ لا يُمكن حذفها ولا إلغاؤها . ومِن المُستحيل تكوين مُجتمع إنساني مُنظَّم بشكل كامل ، والنظامُ الاجتماعي الكامل غاية لا تُدرَك . ومعَ هذا ، إنَّ المُجتمع الذي يَعرف أخطاءه وعُيوبه وأمراضه ، هو مُجتمع حَي وحيوي ، يسير في طريق العلاج . أمَّا المُجتمع الذي يُكَابِر ، ويُعَانِد الحقائقَ ، ويَعتبر نَفْسَه خاليًا مِن المُشكلات والأزمات ، فهو مُجتمع ميت ، لا أمل في عَودته إلى الحياة . والمجتمعُ الميتُ الذي لا يَعرِف أنَّه ماتَ ، لا يُمكن إقناعه بأهمية الحياة ، وضرورةِ العودة إلَيها .