فاروق يوسف يكتب:

عبدالله بن زايد يدعو إلى السلام في نصب المحرقة

“إن ذلك لن يحدث مطلقا مرة أخرى”. بتلك الجملة ذات الدلالة الإنسانية القوية أنهى الشيخ عبدالله بن زايد وزير الخارجية الإماراتي الكلمة القصيرة التي كتبها في سجل زيارات نصب المحرقة “هولوكوست” ببرلين.

وكان قد كتب قبلها “إن المكان يذكّر بضحايا دعاة التطرف والكراهية وبقيم إنسانية نبيلة تدعو إلى التعايش والتسامح” وهي القيم التي تأسست عليها دولة الإمارات العربية المتحدة ولا تزال حريصة على الإعلاء من شأنها وتجسيدها في كل تجليات وجودها السياسي والإنساني.

نصب الفجيعة البشرية

الفكرة التي أراد الشيخ عبدالله بن زايد التأكيد عليها تتعلق بالمنحى الإنساني الذي يتخذه وجود ذلك النصب الغريب، شاسع المساحة قريبا من بوابة براندنبورغ وهي رمز مدينة برلين.

فالتأثير البصري الذي يسببه النصب الممتد أفقيا يتخطى مناسبته الأليمة المباشرة. ربما لأن الفجيعة عثرت على الشكل الذي تتخذه بعد أن تفرّغ حمولتها من الألم والعذاب. هناك مَن رأى الفجيعة كما لو أنها كيان خالص. لقد نجح المهندسان المعماريان بيتر ايزنمان وبورو هابولد في تجسيد الصمت الهائل الذي تلا المجزرة من خلال 2711 لوحا خرسانيا، رتبت بطريقة إيقاعية غير منتظمة، يشعر المرء حين يمشي في دروبها كما لو أنه يسير في اتجاه المطلق أو يقيم في ثقب أسود.

بصريا ينسى المرء مشهد المقبرة الذي يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى. فالمقبرة هي فضاء يحتفي بالموت وحده وهو فضاء موحش. أما هذا النصب الذي تغلب الدهشة فيه على أي تأثير آخر فإن آخر ما يذكّر به هو الموت. هناك دوي عاصف يتلوى مختنقا بين الدروب التي تصنعها الألواح وهو دوي لا يزعج ولا يصم الآذان حين يتسلل إلى الروح حيا بخفة مدفوعا بقوة المشاعر المشدودة التي ينطوي عليها.

صمّم المهندسان نصبا هندسيا، نوعا من العمارة الصامتة. من النظرة الأولى يبدو الأمر ثقيل الوطأة ويخلو من أي عاطفة. فالمسألة لا تتعلق بالموتى بل بالأسباب التي وقفت وراء ذهابهم مكرهين إلى الموت. وهو ما أشار إليه الشيخ عبدالله حين تحدث عن دعاة التطرف والكراهية وهو ما لا تخلو إسرائيل نفسها منه حين يتعلق الأمر بالحقوق الفلسطينية.

“هولوكوست” ليست كلمة

ستكون زيارة النصب ضرورية بالنسبة للسياسيين وبالأخص في الدول التي تشهد نزاعات قائمة على التمييز بين البشر على أساس عرقي أو ديني أو طائفي. ففيه الكلمة الأخيرة أو المصطلح الذي صار يتم تداوله بين الأمم وفي مناسبات شتى “هولوكوست” تلك الكلمة التي صارت مفتاحا للجحيم الذي يصنعه الآخر بغباء وجهل وغرور. 

لقد صارت المحرقة رمزا عالميا، بحيث لم تعد هناك حاجة لربطها باليهود الذين تعرضوا للقتل زمن النازية بناء على التمييز العنصري. هناك حدث بغيض تعرضت له البشرية يومها فكان ذلك دليلا على لحظة تاريخية، انهارت فيها القيم الإنسانية.     

وكلما تجددت تلك اللحظة تجدد الشعور بالألم وعادت المذبحة إلى الظهور لتعلن فشل البشرية في القضاء على الهمجية الكامنة التي تظهر بين حين وآخر ما أن تجد لها منفذا.

المحرقة صارت رمزا عالميا لا حاجة لربطها باليهود الذين تعرضوا للقتل زمن النازية. هناك حدث بغيض تعرضت له البشرية كان دليلا على لحظة تاريخية انهارت فيها القيم الإنسانية

لذلك لم يوجه الشيخ عبدالله كلمته إلى اليهود وحدهم. يقول للجميع: البشرية أمام استحقاقات إنسانيتها وأمام مخاوف همجيتها.

وإذا ما عدنا إلى نصب المحرقة الذي تقوم فكرته على تشعب دروب الألم وتعدد مستوياته فإنه يستند إلى مفردة تشكيلية واحدة تتكرر، لكن كما لو أنها ليست المفردة ذاتها. ذلك لأنها لا تُرى بمفردها. كل ما هو خاص يتحول إلى جماعي. وكل ما هو ذاتي يأخذ طريقه إلى سياق إنسانية لا حدود لها.

المفردة الصامتة كانت هي الأساس لنصب يبدو صامتا من الخارج، غير أنّ من يجرؤ على التجول في دروب تلك المتاهة مدفوعا بقوة الألم لابد أن يكتشف أن تلك العمارة الأفقية إنما تتسع في استمرار ليكون العالم كله مساحتها. إنها فكرة عن المصير البشري. نحن هناك كلنا وكلنا غرباء ومجهولو الأسماء. فما من شاهدة تحمل اسما. لقد تبرع القتلى بأسمائهم لتكون من نصيب بشر لم يتعرفوا عليهم غير أنهم سيشاركونهم مصيرهم.  

هل انتهت المحرقة؟

المشي بين حقول الألغام

لا يمكننا القول إننا نقف أمام النصب الذي تحتضنه برلين بأريحية، لا رغبة منها في أن تعاقب نفسها بل من أجل أن تسجل لحظة مغيّبة من التاريخ البشري. النظرة من الأمام لا تعطي فكرة عن النصب إلا باعتباره محاولة لتوثيق لحظة موت واحدة ولكن النصب ليس كذلك. هناك موت مستمر. يمكننا أن نشبّه السير في دروب النصب كالمشي في حقول الألغام. ما من شيء يشعرك بالاطمئنان. سينفجر اللغم تحت قدميك في أي لحظة. لذلك فإن النصب بتعدد إيقاعاته وهي إيقاعات لا تروي سوى جملة واحدة من الحكاية إنما يكتفي بالتماس مع الأفق ولا يصل إلى النهاية. ما من نهاية ما دامت المحرقة لم تنته.

سيكون ذلك سببا لتذكر المحرقة والتحرر منها في الوقت نفسه.

وليس هناك من سبيل للتحرر منها سوى السعي في اتجاه عدم تكرارها لا بالقول وحده بل بالفعل. وهو ما يتطلب بذل جهود عظيمة من أجل فرض لغة السلام واستبعاد لغة العنف. تلك رسالة ليس من اليسير تحقيقها إذا ما استمرت الصراعات في سياقها القديم في مناطق مختلفة من العالم وفي مقدمتها منطقتنا العربية التي عانت من العنف واستبدت بها لغة الكراهية زمنا طويلا.

وفي عودة إلى النصب يمكنني القول إنه ليس عملا فنيا جنائزيا بقدر ما هو صورة مختزلة عن مسيرات فجائعية قامت بها شعوب ولا تزال شعوب أخرى تقوم بها اليوم. أما آن لذلك الألم أن ينتهي؟

في إمكان السياسيين أن يفعلوا الشيء الكثير في ذلك الاتجاه.

لذلك لم تكن زيارة الشيخ عبدالله بمعية وزير الخارجية الإسرائيلي غابي اشكينازي مجرد لحظة عابرة صنعت حدثا قابلا للتأويل. إنه حدث صنعته إرادة السلام في منطقة، تعبت شعوبها من المسيرات الفجائعية. ولم يكن هناك مكان مناسب للإعلان عن ذلك الحدث أكثر من نصب لا تزال صيحات المتألمين تتجول بصمت بين أرجائه.