فاروق يوسف يكتب:

غزة.. الهروب نحو المجهول

انتهت مغامرة حماس في الخروج على الاجماع الوطني الفلسطيني وكف يد العالم العربي عن القضية الفلسطينية بغزة محطمة وأهلها في العراء.

أكان ذلك هو المطلوب؟

كانت حركة حماس حدثا طارئا على النضال الوطني الفلسطيني. نظر مؤسسوها وقادتها إلى القضية من خلال منظار ديني. زاوية نظر تفرق ولا تجمع. ذلك لأن الفلسطينيين كانوا حريصين دائما على ألا يتخذ الصراع مع الصهيونية طابعا دينيا بما ينسجم مع الرؤية العنصرية التي أقيمت على أساسها دولة إسرائيل.

لذلك كان من الطبيعي ألا يحدث توافق بين حماس وبقية الفصائل الفلسطينية المسلحة التي كان لها تاريخ كفاحي أرتقى بالقضية من درجة الشعب اللاجئ المنسي إلى درجة الشعب الذي فرض صوته على العالم ووقف زعيمه على منصة الأمم المتحدة حاملا غصن الزيتون بعد أن حمل البندقية لسنوات طويلة.

وإذا ما كانت حماس قد اكتسبت شعبية أهلتها للفوز في الانتخابات التشريعية عام 2006 فإن ذلك لم يحدث اعترافا بما قدمته للقضية من تضحيات، بل نكاية برموز السلطة الفلسطينية في رام الله الذين انزلقوا إلى الفساد متناسين المهمة الحساسة التي أُوكلت إليهم في بناء نموذج للحكم يكون بمثابة نواة للدولة الفلسطينية التي كان مناسبا بالنسبة لإسرائيل أن يتم طي صفحتها من قبل الفلسطينيين.

نجحت حماس بسبب فشل الآخرين. ولكنها فشلت في إدارة نجاحها حين قدمت نزعتها الإخوانية على ما يُفترض وجوده من قواسم مشتركة تجمعها مع الفصائل الأخرى وبالأخص حركة فتح التي يضعها التاريخ على رأس المقاومة.

فشلت حركة حماس في إدارة صراعها السياسي فقررت الهروب بقطاع غزة، هناك جمهورها الذي يمكن احتواؤه بإمارة إخوانية، تأخذ القضية إلى مناطق عقائدية بعيدة عن الجوهر الوطني للصراع الذي صار بمثابة شبهة بسبب الفساد الذي غرقت فيه السلطة الفلسطينية.

مقابل الفساد الواقعي حلت النزاهة الدينية المتخيلة.

شيء من ذلك القبيل لا يمكن إدراك الخطر الذي يقود إليه إلا إذا عرفنا أن مصادر التمويل لمشروع الإمارة الإخوية كانت قد رسمت مخططا طويل الأمد، تكون غزة رأس الحربة فيه. غير أن المحرك لتلك الحربة لا يقع في غزة أو أي جزء من فلسطين، بل في مكان يقع خارج العالم العربي.

حين استقلت حركة حماس بغزة فإنها فصلتها سياسيا عن فلسطين. لا لأن السلطة لم تعد قادرة على إدارتها حسب، بل لأن كل مصيرها ومصير أهلها صارا رهيني قرار يُتخذ في مكان ما وليس من أجل القضية الفلسطينية. وهو ما يعني أن إيران لم تدخل عنوة في المجال التفاعلي الفلسطيني بقدر ما يعني أن حماس ولأسباب عقائدية رأت أن إيران هي الخيار المضاد لخيار العالم العربي الذي لا ترغب فيه.

قبل السابع من اكتوبر 2023 لم يكن الفلسطينيون صريحين مع أنفسهم إلى الدرجة التي تدفعهم إلى الاعتراف بأن غزة لم تعد جزءا من فلسطين وأن حماس حين وقفت ضد العالم العربي فإنها اختارت أن ترتمي في أحضان المشروع التوسعي الإيراني الهادف لتدمير العالم العربي خدمة لإسرائيل التي وجدت في ذلك ما يعفيها عن أية مساءلة قانونية تتعلق بالتزامها بالقرارات الدولية. فغزة التي أُلحقت بالمشروع الإيراني الذي هو محط استنكار عربي. لم يعد في إمكان العرب الدفاع عن غزة.  

تُركت غزة وحيدة ليس بقرار عربي. لم يتخل عنها العرب. في كل الحروب السابقة التي تعرضت لها كان اعمارها يُغطى بتمويل عربي. ولكن حربها الأخيرة التي كانت صادمة لهم قد أكدت أن خيالها كان إيرانيا وأنها كانت مصمَمَة من أجل أن تنهي على الخريطة كيانا جغرافيا اسمه غزة هو جزء من فلسطين. لم يمت إسماعيل هنية وهو رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في غزة، بل مات في طهران. في ذلك دلالة على أن غزة في حربها الأخيرة لم تكن إلا ساحة لصراع إسرائيلي إيراني لا علاقة له بالقضية الفلسطينية.

يفكر ترامب بشراء غزة أرضا لا بناء عليها وهو حين يفكر بشعبها فإنه لا يبخل بعروضه وصولا إلى ألبانيا التي سبق لها أن آوت في وقت سابق المعارضة الإيرانية مقابل أموال مدفوعة سلفا. وبغض النظر عن هذيانات ترامب فإن غزة وأهلها وإن صارا كما لو أنهما معروضان للبيع هما مسؤولية لا يمكن للعرب التملص منها.