سمير عادل يكتب لـ(اليوم الثامن):

القومیة الامریكیة والدیمقراطیة

 لیس مھما من فاز في الانتخابات الامریكیة، فبایدن الدیمقراطي الذي اجتمع وول ستریت والاعلام خلفھ من اجل فوزه لن یكن الا حالة عابرة ومسكنا 
لالام مجتمع یغلي بالتفاوت الطبقي والعنصریة، فولایة ترامب لاربع سنوات، كانت 
كافیة للكشف عن عمق الازمة الاجتماعیة في المجتمع الامریكي. 
في عالم ارتبط الیوم شرقھ بغربھ، وشمالھ بجنوبھ عبر التطور الھائل في عالم 
الاتصالات، لا یمكن تجاھل ما یحدث في الولایات المتحدة الامریكیة التي سماھا 
الاعلام البرجوازي بأنھا من اعرق الدیمقراطیات في العالم. فالمسألة انھا لا ترتبط 
بتأثیر السیاسات الخارجیة للادارات الامریكیة سواء كانت دیمقراطیة او جمھوریة 
التي لا تختلف من حیث المحتوى وتقدم خدمة جلیلة للمصالح الاستراتیجیة 
للامبریالیة الامریكیة، بل ترتبط بتاثیر صراع التیارات السیاسیة والاجتماعیة 
ومفاھیم مثل الدیمقراطیة والرفاه والضمان الاجتماعي والصحي بالنسبة لنا نحن 
الجماھیر الغفیرة، التي ترزح تحت سلطة وانظمة استبدادیة وملیشیاتیة وجائرة 
وفاسدة وتمتاز باقذر الصفات العنصریة والطائفیة والدینیة، وھي كثیرة ولا 
تقاس مع صفات ترامب وتیاره المسمى الیوم بالترامبیة (Trumpisim ( 
وھو مصطلح جدید دخل في الخطاب السیاسي العالمي. فالتیار الترامبي الذي رفع 
شعار (امریكا اولا) وشغل التھ الدعائیة القدیمة التي استخدمت في زمن الحملة 
المكارثیة ابان الحرب الباردة لاعتقال كل شخص اشتراكي وشیوعي او یساري، 
واذا كان محظوظا فیتم تسقیطھ سیاسیا واخلاقیا واجتماعیا، ستجد تلك الالة اسواق 
جدیدة في العالم لاستیرادھا، وخاصة سیشھد العالم احتجاجات عظیمة بسبب البطالة 
والفقر التي خلفھا وباء كورونا. واذا ما دققنا قلیلا فأن الخطاب الھجومي لترامب 
وادارتھ على الصین بذریعة نشرھا لوباء كورونا، كان خطابا ایدیلوجیا بأمتیاز 
عندما اعادت تجدید ما سموه بخطر الحزب (الشیوعي) الصیني، الذي غاب عن 
خطاب الادارات السابقة حین كانت الشركات الامریكیة تصنع بضائعھا بأیدي 
عاملة رخیصة وتجني ارباح اضعاف ما كانت تجنیھا في عقر دارھا، وحین كان 
اقتصاد الصین لا یشكل خطرا على مكانة امریكا الاقتصادیة في العالم. وھو نفس 
الخطاب الذي استخدمتھ الادارة في حملتھا ضد بایدن بأن الاشتراكیة والشیوعیة 
والیسار الرادیكالي یرید ان یسیطر على امریكا، بسبب المطالبة بحق الرعایة 
الصحیة والتعلیم المجاني ورفع الحد الادنى للاجور وبیئة خالیة من التلوث 
وضرائب تصاعدیة على الشركات ورجال الاعمال. ھذا الخطاب سیجد اذانا 
صاغیة في بلداننا وسیؤثر بشكل مباشر وغیر مباشر على حقانیة تیارنا وحركتنا 
المطالبة بضمان بطالة وضمان اجتماعي وضمان صحي وتعلیم مجاني وسكن لائق 
وبیئة نظیفة.
لیس غریبا بأن تركز كل وسائل الاعلام بصنوفھا السمعیة والمرئیة والمقروءة 
وعبر العالم حول مسالة واحدة لا غیر وھي الدیمقراطیة وحصرھا بصنادیق الاقتراع لا غیر. وكما یقول لنا منصور حكمت في مقابلتھ المعروفة (الدیمقراطیة 
بین التعابیر والواقع)، ان الدیمقراطیة ھي مفھوم البرجوازیة للحریة، وھنا وفي 
خضم اعرق الدیمقراطیات لا تتعدى (الدیمقراطیة) صنادیق الاقتراع. وھذه فرصة 
للاعلام البرجوازي بشرقھ وغربھ للترویج والدعایة والتجدید للدیمقراطیة الغربیة 
وعلى رأسھا الامریكیة، وبغض النظر عن الشوائب التي تحیط بھا او الخروقات او 
التزویر الذي یتحدث عنھ تیار ترامب. بید ان المستور علیھ مع سبق الاصرار 
والترصد من قبل وسائل الاعلام وھو وجود تیار عریض یقوده الیمین البرجوازي 
الرجعي بقیادة الحزب الجمھوري وبزعامة ترامب یعلن معاداتھ السافرة 
لابسط الحقوق الادمیة والانسانیة مثل الرعایة الصحیة والتعلیم المجاني في كل 
المراحل الدراسیة وحق الحصول على سكن ملائم، والمساواة العرقیة والجنسیة 
والعدالة بتوزیع الثروات. ھذا التیار انتصر في 2016 ،وادى الى 
بعث الروح في التیارات الیمینة الرجعیة والعنصریة في العدید من دول العالم مثل 
كندا وفرنسا وبریطانیا واوكرانیا وھولندا والدانمارك، وتمثّل تلك التیارات الذخیرة 
الاحتیاطیة للبرجوازیة في مراحل ازمات نظامھا الراسمالي، الاقتصادیة والسیاسیة 
والاجتماعیة. ھذا التیار الذي یشكل نسبة عظمى منھ اغلبیة محرومة من حقوقھا 
الاساسیة مثل التعلیم والصحة والسكن والاجر المناسب لمعیشتھ، یعتقد عبر نفخ 
الروح القومیة في (امریكا اولا) بأنھ سیجد خلاصھ. ان مستنقع الاوھام الذي یغرق 
بھ ھذا التیار ھو الذي یجب النظر الیھ وتستشعر الطبقة العاملة والحركة المساواتیة 
والتحرریة في المجتمع بخطره. فمن الوھم كل الوھم اذا تصور اي شخص ان 
"التیار الیساري والردیكالي والاشتراكي" حسب وصف ترامب وانصاره بأنھ 
المنتصر في ھذه الانتخابات ویجب الحذر من اختطافھ لامریكا، وانھ اي انتصار 
الیسار بالانتخابات، ستطوى صفحة ھذا التیار المتنمر الذي كان یخبئ راسھ حتى 
وجد رمز وشخصیة مثل ترامب اخرجھ من قمقمھ لیھدد العالم برمتھ. 
اي بمعنى اخر ان الدیمقراطیة التي تدق الطبول لھا في كل مكان، ھي نفسھا الى 
اوصلت ھتلر الى السلطة وقد دفع العالم ثمنا غالیا. ان ھتلر الذي رفع شعار تفوق 
العرق الاري او بما یرادفھا الیوم (المانیا اولا) یقلده الیوم تیار ترامب الذي یتفاخر 
بأن اكثر من 70 ملیون اعطى صوتھ لممثل النازیة الجدیدة. طبعا ان اقصاء ترامب 
عبر ایة الیة بالتأكید افضل للبشریة. ولكن من المؤكد ان ھذا التیار وھذا الشكل من 
الدیمقراطیة سیكون مثل الجمرة تحت الرماد، فبمجرد ھبوب اي ریح مھما كانت 
شدتھا ستشعلھا كي تحرق الاخضر والیابس.
وللتنویھ الى ان ھذه الدیمقراطیة سواء انتصرت لترامب او لبایدین، كانت 
دیمقراطیة مغلفة بالروح القومیة الامریكیة. فالاول اي ترامب رفع شعار (امریكا 
اولا) وھو تعبیر مبطن عن امریكا تفوق العرق الابیض المسیحي البروتستاني الذي 
ما زال لم یغادر الاریاف والقرى بالرغم من كل تداعیات العولمة (وھو الاسم 
الحركي لعالمیة الرأسمال او النظام الراسمالي) الاقتصادیة والمعلوماتیة 
والاجتماعیة. اما الثاني وھو بایدن، فلم یكن النفس القومي الامریكي في خطابھ اقل 
حدة من (امریكا اولا) الا من حیث الشكل دون مس المضمون، والذي یسموه بالدبلوماسیة الناعمة. فخطاب بایدن بمناسبة اعلان النصر الانتخابي، لم یخلو من 
النفس القومي، واستعان بمقولات مثل روح الامة التي تكررت في خطاب نائبتھ 
كاملا ھاریس. والفارق بین الخطاب السیاسي لترامب والخطاب السیاسي لبایدن، 
ھو ان الاول عبر بكل صراحة وصلافة عن وجھ امریكا الحقیقي في العالم دون 
رتوش، بینما الثاني یحاول ان یغلفھ كسلفھ من الرؤوساء السابقین بقناع كي لا یرى 
العالم شدة قبحھ والتقلیل من ھول الصدمة كما فعل ترامب.
 البلطجة بدبلوماسیة ناعمة ھي السیاسة الامریكیة في العالم مثلما عبر عنھا 
بایدن قبل ترامب باكثر من عقد یوم تأییده لشن الحرب على العراق، وبعد ذلك 
عندما وصل المشروع الامریكي العسكري-الشرق الاوسط الكبیر الى مأزقھ عام 
2006 في العراق، بادر لتقدیم مشروع لتقسیم العراق الى كیانات طائفیة وقومیة 
في الكونغرس لیتحول الى قرار غیر ملزم، وكان الھدف من القرار ھو 
محاولة للتخلص من العبئ السیاسي والعسكري في العراق وانقاذ ما یمكن 
انقاذه. واخیرا ولیس اخرا كانت ھناك مساعي لادارة اوباما عندما كان بایدن نائب 
للرئیس في دعم الاسلام السیاسي للانقلاب على الثورتین المصریة 
والتونسیة وھبوب نسیمھما، وتجنید كل الوحوش الارھابیة الاسلامیة التي انفصلت 
ھویتھا عن البشریة وارسالھا الى سوریة عبر التنسیق مع المخابرات التركیة 
والفرنسیة والمانیة والبریطانیة. بینما غادر ترامب عالم اللف والدوران في 
واشنطن عبر بلطجة بدینامیة عالیة في جمیع القرارات التي اتخذھا في الانسحابات 
التي قام بھا من الاتفاقیة النوویة مع ایران واتفاقیة باریس للمناخ ومجلس حقوق 
الانسان ومنظمة الصحة العالمیة وایقاف دعم اونوروا وھي 
المساعدات للفلسطیین، ونقل سفارتھا الى تل ابیب وھلم جرا. ولم یتردد ترامب 
في تدمیر الیمن ودعمھ للعصابات الحاكمة في السعودیة وتركیا والامارات مثلما لم 
یتردد بوش في غزو واحتلال العراق وكما لم یرف جفن لكلینتون لموت اكثر من 2
ملیون طفل جراء الحصار الاقتصادي. فالبلطجة كانت عنوان جمیع سیاسات اولئك 
ابطال الدیمقراطیة في العالم ولكن غلفت بأكثر اشكال الخطاب السیاسي نفاقا 
ودیماغوجیة.
واخیرا نقول علینا ان لا ننخدع بما یسوقوه لنا عن الدیمقراطیة، فكما قلنا عشیة فوز 
ترامب عام 2016 في مقال (ترامب لم یقفز من السماء) وقد اخطأنا حینھا عندما 
توقعنا فشل ترامب بالوصول الى البیت الابیض، الا ان المعطیات التي 
استندنا علیھا حینھا ھو تطور عجلة النظام الراسمالي ولا یمكن الوقوف باعادة 
عقارب التاریخ الى الوراء عبر شعار (امریكا اولا) والعودة الى عصر الاسواق 
غیر الحرة والحمائیة والتعریفة الكمركیة، ھي نفس المعطیات الیوم التي لعبت دورا 
مھما بالاطاحة بترامب في ھذه الانتخابات. فقد افشى ترامب بسر الثورة علیھ، 
عندما قال بشكل صائب تحالف المال والاعلام ضده في ھذه الانتخابات، اي تحالف 
وول ستریت ووسائل الاعلام التي ھللت للدیمقراطیة وجددت عرسھا من سي ان 
ان، وان بي سي، وسي بي اس وواشنطن بوست ونیویورك تایمز وبولتیكو واخیرا 
التحق بھم فوكس نیوز الوحیدة التي كانت تناصر ترامب وتیاره والتي تدیرھا امبراطوریة مردوخ الاعلامیة، ولاول مرة لم یكذب الرجل طوال اربع سنوت من 
تولیھ للادراة الامریكیة. ومن حق التیار المعادي للعنصریة والداعي للمساواة 
والتمتع بحق التعلیم والصحة وحق الاجھاض والمثلیین ان یطیحوا بترامب وتیاره، 
ولكن لن یكن بمنأى من خطر التیار الترامبي في المستقبل طالما ظل وول ستریت 
والاعلام المملوك ینثر السموم في المجتمع ویقدس الفردیة والفردانیة الامریكیة، 
ویحمل ازماتھا الاقتصادیة ومشكلاتھا على كاھل العمال ومحرومي المجتمع 
الامریكي. والمفارقة ھنا ھو ان جموع التیار الترامبي وجموع التیار المعادي 
لترامب تتقاسم نفس البؤس والفقر وانعدام الصحة المجانیة والتعلیم المجاني الا ان 
الاول یعتقد بانھ عن طریق بعث روح القومیة الامریكیة ستعید المصانع التي ھربت 
الى الصین والمكسیك وكمبودیا وفیتنام وبنغلادس الى امریكا.
ولذلك ان تریاق الدیمقراطیة اصبح فن لادارة الازمة البرجوازیة ولیس حلا لھا، 
وھذا ما یجب ان نتعلمھ من الانتخابات الامریكیة.