إبراهيم أبو عواد يكتب لـ(اليوم الثامن):
حماية الإنسان من السقوط خارج التاريخ
1
التفاعلُ الرمزي بين الإنسان والتاريخ يَعكس أهميةَ التواصل بين الذات والإطار الحاضن لها ، وبما أن الذات لا تَنشأ في الفراغ ، ولا تَنمو في العدم ، فمن الطبيعي أن تبحث الذات عن بيئة مُناسبة للإبداع ، تَكون كالتُّربة الخِصبة بالنِّسبة للوردة . ولكن الإشكالية أنَّ الإنسان يَنبهر بالوردة ، ويُركِّز في قَطْفها ، ويَنسى الأشواكَ التي تُحيط بها ، وهذه العملية الخطيرة تُشبِه الانبهارَ بالتاريخ ، والتَّركيز في الحَدَث ، ونِسيان الدوافع الخَفِيَّة التي تقف خلف صناعة الحَدَث ، وتعمل على تَوجيهه بشكل مُغرِض ، اعتمادًا على الأهواء الذاتية والمصالح الشخصية . وكما أنَّه لا تُوجد فائدة مِن عطر الوردة وجَمَالها ، إذا كانت سَامَّةً وقاتلةً ، كذلك لا تُوجد فائدة مِن رُومانسية التاريخ ورَوعته ، إذا كان قائمًا على حضارة القتل ، واستغلال القويِّ للضعيف .
2
عندما يُدرِك الإنسانُ دَوْرَه المركزي في الأنساق التاريخية ، باعتباره فاعلًا لها، ومُنفعلًا بها، سيُدرِك طبيعة العِلَّة والمَعلول في التاريخ واللغة ، فالعِلَّةُ هي قُوَّةُ الإنسانِ الفاعلةُ في تراكيب التاريخ وبُنى اللغة ، والمُؤثِّرةُ في الظواهر الاجتماعية المُتوازنة رُوحًا ومَادَّةً ، والمُعاشة مَعنًى ومَبنًى . والمَعلولُ هو الأثر الاجتماعي المُترتِّب على العِلَّة ( قُوَّة الإنسان الفاعلة ) ، والناتج عنها . وهذا الترابطُ المصيري بين السَّبب الإنساني والنتيجة الاجتماعية ، يعني أنَّ الإنسان هو قائد حركة التاريخ ، والقادر على إيجاد علاقة شرعية بين التاريخ واللغة ، وإحداث توازن منطقي بينهما ، مِن أجل تَوظيف التاريخ لخدمة الأبعاد اللغوية الرمزية الحاملة لمشروع الحضارة الرحيمة، وتوظيفِ اللغة لخدمة المفاهيم التاريخية الوجودية الحاملة لشرعية الظواهر الاجتماعية الإيجابية .
3
تُشكِّل عمليةُ السُّقوط خارج التاريخ أكبر خطر على مركزية الإنسان في نظام المجتمع ومنظومة الحضارة ، لأن هذه العملية تعني أنَّ الإنسان دخل في الانتحار التدريجي لعدم وجود أرضية صُلبة يقف عليها ، ومساحة إبداعية يتحرَّك فيها ، والمجتمع دخل في المَوت البطيء لعدم وجود شرعية لأحلام الحاضر ومشروعية لآمال المُستقبل ، والحضارة دخلت في اليأس العنيف لعدم وجود ثقافة حُرَّة ومُتحرِّرة مِن الخَوف والوَهْم ، وابتكارات تكنولوجية صديقة للإنسان والبيئة والمناخ . وفقدان هذه المسارات الثلاثة ( الإنسان والمجتمع والحضارة ) للأمل والشَّغَف والرُّوح ، يَدفع البعض إلى استخدام الوسائل العنيفة للتَّعبير ، لشُعوره بالعجز التام وخسارة الأحلام وغياب الضَّوء في نهاية النَّفَق . وإذا حُشر الإنسانُ في الزاوية الضَّيقة ، وأيقنَ أنَّه وصل إلى طريق مَسدود ، وأنَّه لَم يَعُدْ هُناك ما يَخسره ، فَسَوْفَ يَرمي إنسانيته وراء ظَهْره ، ويتحوَّل إلى وحش كاسر ضِد أخيه الإنسان ، ويُحوِّل التاريخَ مِن منظومة إنسانية راقية إلى مَنظومة عُقَد نَفْسِيَّة مُركَّبة ، قائمة على الصِّراع والصِّدام، والشُّعور بالظُّلم ، وثنائية الضحية والجلاد ، واستغلال القويِّ للضعيف ، وابتزاز مَن يَملِك لِمَن لا يَملِك ، وحُب الانتقام والأخذ بالثأر . وعِندئذ ، سيعمل الإنسانُ جاهدًا لتحطيم المُنجَزات الحضارية التَّراكمية ، لقناعته بعدم وُجود مكان له في الحضارة ، وأنَّه خارج اللعبة السياسية العالمية ، وأنَّه مُجرَّد مُتفرِّج على اللاعبين بمساره ومصيره . وهذه المشكلةُ الخطيرة تَدعو إلى ضرورة حماية الإنسان مِن نَفْسه ، وحماية المجتمع مِن الإنسان ، وحماية الحضارة مِن الإنسان والمجتمع معًا . وهذه الحمايةُ الشاملةُ لا تتحقَّق إلا بجَعْلِ الإنسان مُشَارِكًا في بناء نَفْسه ، وتَطويرِ مُجتمعه المحلي وحضارته العالمية ، وجَعْلِ الجوهر الإنساني مَوضوعًا للتاريخ ، وبذلك يُصبح التاريخُ حُلْمًا إبداعيًّا مُعاشًا باستمرار ، وبارقة أمل ، ونافذة على المُستقبل المُشرق ، ولَيس لَعنةً على الإنسان ، وتَهديدًا لوجوده ، وتَدميرًا لأحلامه .