سعد القرش يكتب:

التدعيش المجتمعي يؤدي إلى "عدالة" طائفية

الحكم القضائي بتبرئة ثلاثة متهمين بتعرية سيدة مسيحية يثير عدة شجون. أولها خطأ ثورة 25 يناير 2011 بتأجيل حسم المادة الثانية الطائفية في دستور أنور السادات، ونقلها مزيدة غير منقّحة إلى دستور الإخوان ثم إلى دستور 2014. والثاني هو نجاح الثورة في نزع القداسة عن مثلث كان الاقتراب منه محرّما، ويضم مؤسسات الجيش والقضاء والأزهر. والثالث هو أنسنة الأحكام القضائية، وإنهاء مقولة “الحكم عنوان الحقيقة”، ففي أحكام القضاء لا توجد “حقيقة مطلقة”، بل حكم تقديري بشري، ويحق للنيابة ولأي من أطراف القضية الطعن عليه، وإعادة التقاضي أمام هيئة قضائية أخرى، قد تقضي بحكم ينسخ حكما كان وقت صدوره “عنوان الحقيقة”.

أنسنة القضاء لا تمسّ هيبته. والنظر إلى القضاء من زاوية “بشرية” ينسف أوهام القداسة، ويرى القضاة ثمرة مجتمعاتهم. مجتمع القانون يُخرج قاضيا منضبطا يعرف أنه ليس فوق القانون، وأن سلوكه مراقب، وأنه غير محصّن من الوقوع في أخطاء أخلاقية تؤثر في أحكامه. والمجتمع الفوضوي المنفلت يخرج قاضيا يورث البلطجة إلى ابنه الصبي فيقود سيارة مخالفا قواعد السير، ويقلد أخلاق أبيه القاضي فيهين شرطيا ويسبه. وليس أشهر في مصر من رجل انتخب رئيسا لنادٍ رياضي، واستغل حصانته البرلمانية خارج البرلمان، بالخوض في أعراض المعارضين السياسيين ولاعبي الكرة، وقذف زوجاتهم وأمهاتهم. هذا الرجل، الذي لا يتخلى عن لقب “المستشار”، كيف كان قاضيا؟

في تجديد الخطاب السياسي كتبتُ عدة مرات أن من ينصت إلى خطاب عبدالفتاح السيسي، بموضوعية، يتصور أنه أحد الولاة على إمارة إسلامية لا رئيسا لأقدم دولة. ولم يتغير خطابه السلفي، ففي مؤتمر صحافي في باريس مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فرّق السيسي بين القيم الدينية وحق الإنسان في الحرية، رافضا ألا تنتهك الأولى انتصارا للثانية؛ فمكانة “القيم الدينية أعلى كثيرا من القيم الإنسانية. القيم الإنسانية هي قيم نحن عملناها”، أما الدينية “فهي مقدسة”. وفي هذا يعترف بأن القيم الدينية ضد القيم الإنسانية، فالأولى تُشقي البشر؛ لأنها تخالف القيم الإنسانية. فهل يتراجع العالم عن قيم ارتقت إليها الإنسانية مثل تجريم الرقّ؟

الخطاب السياسي المصري دال على حالة من السيولة تتجاوز الفكر إلى الممارسة، فليس النظام مدنيا، أو عسكريا، أو دينيا، وإنما هو خليط من ذلك كله. النظام يعارض الأزهر في قضية يثيرها السيسي شخصيا مثل دعوته عام 2017 إلى إلغاء الطلاق الشفوي، ويتفق مع المؤسسة الدينية في أمور أخرى. وتحديد الخطاب ليس عبثا، والأزهر يعي ما يترتب على تقنين المصطلح، حتى أن ممثليه في لجنة صوغ دستور 2014 رفضوا النص على أن مصر “دولة مدنية”، وبعد جدال استبدلوا به أن مصر “حكومتها مدنية” في ديباجة الدستور الملغوم. فما الفرق بين خطاب السيسي بباريس 2020 وخطاب محمد مرسي عام 2012 في طهران؟

الحكم بالبراءة في هذه القضية يدفع إلى فقدان الثقة بالعدالة، ولو استُهدف مظلوم بمثل هذا الحكم ثم وجد في نفسه قدرة على الانتقام فلن يتردد في انتزاع حق فشل في نيله بالقانون

يُنتج الخطابان السياسي العشائري والسلفي الطائفي مجتمعا داعشيا. تصلني احتيالات مصريين وعرب في أوروبا، يفخرون بمهاراتهم في استحلال السرقة؛ لأنها أموال مسيحيين. قبل أن تتعجب راجع مواقف آباء السلفية “الجهادية التكفيرية” ونظرتهم إلى المسيحيين باعتبارهم كفارا أموالهم حلال. في عام 1981 ترجم تنظيم “الجهاد” فتوى عمر عبدالرحمن باستحلال المسيحيين، فقتل مسيحيين في نجع حمادي، وسرق أربعة من محلات الذهب؛ للإنفاق على “الدعوة إلى الله”. وفي العام نفسه استولى التنظيم على محلين للذهب لمسيحييْن في القاهرة. وبعد يوليو 2013 استحل الإخوان المسلمون وأنصارهم الدماء، وحرقوا العشرات من الكنائس. وبقرارات للنيابة العامة تُستحل أعمار معتقلين يُسجنون احتياطيا لفترات مفتوحة، ولا يُقدمون للمحاكمة.

قدَر “سيدة الكرم” سعاد ثابت أنها مسيحية، فأصابها ظلم مضاعف، من مجرمين هتكوا عرضها، وقضاء لم ينصفها. في مايو 2016 شهدت قرية “الكرم” بمحافظة المنيا اعتداءات على سكان مسيحيين، وتم حرق سبعة منازل، وتعرية السيدة (70 عاما). مشهد يتكرر في الصعيد وفي غيره، ولا يحسم بقوة القانون، ويتم تجميده بهدنة عشائرية لا تصمد. السيدة حددت ثلاثة جرّدوها من ثيابها، ولكن النيابة قررت أن لا وجه لإقامة الدعوى. وقبلت محكمة الاستئناف تظلم المجني عليها، وحولت القضية إلى المحكمة التي تنحّت، وأحيلت القضية إلى دائرة أخرى حكمت غيابيا بالحبس عشر سنوات على ثلاثة بتهمة هتك العرض. وأعيدت المحاكمة، وصدر الخميس 17 ديسمبر الجاري حكم ببراءتهم.

الحكم بالبراءة، في مثل هذه القضية، يدفع الناس إلى فقدان الثقة بالعدالة. ولو استُهدف مظلوم بمثل هذا الحكم، ثم وجد في نفسه قدرة على الانتقام، فلن يتردد في انتزاع حق فشل في نيله بالقانون. لم تكن “سيدة الكرم” تريد أكثر من الإنصاف، والشعور بأن مؤسسة العدالة سترتها. ثم أتى الحكم ببراءة المعتدين المسلحين، ليعيد مشهد الإهانة وقلة الحيلة، ويؤكد قوة الإرهاب المجتمعي. ولم تملك الضحية إلا البكاء الهستيري، وقالت “حقي عند ربنا”. ثلاث كلمات تذكّر بدموع طفل سوري عام 2013، كانت حروف الكلمات تتناثر من شفتيه، ويعجز عن السيطرة على دموعه، ويلخص شكواه في أربع كلمات “سأقول لله كل شيء”.

المرارة التي استقبل بها حكم البراءة دفعت النيابة العامة، في اليوم التالي، الجمعة 18 ديسمبر 2020، إلى إصدار بيان مقتضب من 32 كلمة، لامتصاص غضب الناس “أمر السيد المستشار النائب العام بتكليف المكتب الفني بمكتبه بدراسة أوجه الطعن على الحكم الصادر ببراءة المتهمين في الواقعة المعروفة بواقعة: سيدة الكرم، وذلك فور إيداع محكمة الجنايات التي أصدرت الحكم أسبابه”. وتظل هذه القضية عنوانا لنزوع طائفي مجتمعي، وبعد القصاص العادل للمجني عليها، يجب الاشتغال على ما وراء هذا العنوان، وتفكيك الخطاب الطائفي المشجع على استباحة مواطنين، عقابا على أنهم يعتنقون دينا مختلفا، في بلد تنص المادة الثانية في دستوره على دين للدولة.