سعد القرش يكتب:

الذين ينتظرون لقاح "الكفار" ويفتنهم عيد الميلاد

لا يوجد حصر تقريبي لأعداد الملايين من المسلمين المقيمين في أوروبا. ما أكثر الذين يقيمون ولا يعيشون، فالإقامة ذات بعد جسدي، والعيش حضور نفسي يعني الاندماج والمحبة ونزع الاستعلاء. مَن يقيمون بأجسادهم مثقلون بمواريث تعزلهم عن مجتمعات وصلوا إليها بالتسلل في هجرات غير مشروعة، أو بتصاريح إقامة مؤقتة، وبعضهم يتمنى الحصول على تصاريح دائمة، ويسعى إلى الفوز بالجنسية بعد سنوات إقامة باستقامة تثبت أهليته القانونية وانخراطه المجتمعي، لتتحقق له أحلام ملايين سبقوه إلى نعيم «الكفار»، ولا يريدون لأبنائهم العودة إلى «دار الإسلام» إلا زائرين. ولكن الذين يشقون بالفقر والمرض والدكتاتورية في العالم العربي يسوؤهم احتفال اللاعب محمد صلاح بعيد الميلاد.

لعل الحقد يدرج ضمن أمراض السادية، سادية المقهورين تحديدا نحو متفوّق يعجزون عن مجاراته أو منافسته. ولا يملك المقهور سلاحا يشهره تجاه الأقوى بالمال أو الشهرة إلا الدين، وبالأحرى التديّن، فيظهر تفوّقا عليه، ووصاية على سلوكه تبلغ حدّ الاتهام. وفي السادية الدينية للمقهور ما يمكن تفسيره وفقا لنظرية الإسقاط في علم النفس، بإسراع العاجز المحبط إلى إسقاط عجزه وإحباطه على الآخرين. ولا يُغضب الساديين أن تقام في بلادهم قواعد عسكرية أجنبية، وربما يألفون استقدام ضباط وجنود من «النصارى» للدفاع عن ثروات بلادهم، ولكنهم استكثروا على لاعب ليفربول محمد صلاح أن يحتفل في بيته، مع أسرته بعيد الميلاد، فأمطروه بالآيات والمأثورات.

يترقب العالم خروجا سريعا، بأقل الخسائر، من آثار فايروس كورونا. ولم يفرّق الوباء الكوني بين ملحدين وأتباع ديانات، ولا علاقة للوقاية من الإصابة به، أو الشفاء منه، بانتماء الشخص إلى دين أو مذهب، أو إنكاره لله في علاه. وينتظر الجميع اللقاح؛ فيأمنون بعد سنة من الفزع. ولهفة المتدينين على اللقاح أكبر من لهفتهم على اقتناء الأجيال الأحدث من الهواتف، والاستمتاع بثمار العقول غير المسلمة بالضرورة، في الغرب المسيحي وفي الشرق غير المؤمن بالأديان الإبراهيمية. ولكن المرضى باحتكار الله يُفرِطون في استخدام أدوات التحديث، وينكرون حداثة عقلية أنتجتها، ولا يحترمون عقيدة الآخر الذي بفضل علمه يمدّهم بالعلاج والغذاء والسلاح.

ينشد المتنطعون عالما مصمتا، خاليا من الاختلاف. وينكرون سنن الله في الكون، إذ خلق الناس «شعوبا وقبائل»، «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم». في عام 2011 توفي الخواجة نبيل، وكان رحمه الله مصريا وليس «خواجة»، كما اعتاد الناس أن ينادوه تحبّبا. وقد مات أخوه الأكبر الخواجة يوسف، وتركه وحيدا في قريتنا، فعاش «الخواجة» نبيلا ومحبوبا، واعتاد أن يصطحب في سيارته أي عائد من سفر، وفي المدرسة الثانوية بقرية مجاورة كنا نحشر أجسادنا الصغيرة في سيارته، وتلك بادرة لا يفعلها أصحاب السيارات المسلمون. ولم نر أيّا من أقاربه إلا بعد وفاته.

جاء أقارب الخواجة نبيل مسلّحين بالخوف من نهب بيت الرجل المسيحي الوحيد في القرية. (على من يندهش أن يراجع مشهد وفاة السيدة الفرنسية في فيلم «زوربا»، وكانت تمتلك فندقا صغيرا في كريت، وليس لها وارث، وبموتها اقتحم أهل القرية الفندق ونهبوا محتوياته، وتعرّت الجدران إلا من الضوء، وتركوها وحيدة ممددة في سريرها، وجسدها لا يزال محتفظا بحرارة الحياة). رأى أقارب الخواجة حزن أهل القرية، والقرآن يتلو ترحّما على روحه، فقالوا “كان لديه حق باختياره البقاء بين المسلمين الطيبين. وغادروا القرية قبل أن يصلهم صراخ إمام المسجد، الشاب الأزهري، في خطبة الجمعة، يحمد الله، ويهنئ المصلين بخلوّ البلد أخيرا من المسيحيين”.

لم يرتكب اللاعب خطيئة، وإنما ارتدى هو وأولاده ثياب بابا نويل، ونشر الصورة في تويتر فاستاء المرضى النفسيون، وفي ساعة واحدة رشقها أكثر من مئة ألف أغواهم الإفتاء الديني. ومن تعليقاتهم «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم»، «تعايشك مع غير المسلم لا يعني أن تدين بملّته، وتتنازل عن ثوابت دينك من أجله»، «مش عيدنا يا صلاح لا تتشبه بالقوم الكافرين»، «أن تحتفل بالكريسماس ده معناه اعتراف أكيد منك أن لله ولدا»، «احتفالات الكريسماس مبنية على أن المسيح ابن الله. زعم لا تتحمله الجبال: تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا، أن دعوا للرحمن ولدا».

التنطع هو تحميل دعابة ما لا تحتمل، وتحويل احتفال للفرح ببدء عام جديد إلى مناسبة للكآبة والكراهية «هل نهنئ ونحتفل مع من نسبوا لله ولدا؟”، “كفانا تقليدا أعمى! التعايش والإحسان مطلوبان دون التنازل عن ثوابت العقيدة». وفي هذا السياق استدعي إلى المعركة صحابي ورمز سلفي «قال عمر بن الخطاب: اجتنبوا أعداء الله في أعيادهم»، «ابن القيم: تهنئة النصارى لا تجوووز»، «ابن القيم: فعل الكبائر عند الله مجتمعة أهون من تهنئة النصارى بعيدهم والمشاركة معهم». أما «مكة» محمد صلاح فنالها نصيب من السخرية «مسميها مكة وحاطتها في وسط شجر الكريسماس؟ كنت سميتها تريزا.. أو فاتيكان»، «مكة شو ذنبها تتلوث بعهر والدها؟».

عام 1981، عزّ عليّ تساهُل يوسف القرضاوي في كتابه «الحلال والحرام في الإسلام»، وسمعت بكتاب لرجل حجازيّ ينتقده، فبحثت عنه. ومن مكتبة في المحلة الكبرى اشتريت كتاب «الإعلام ببيان أخطاء الشيخ القرضاوي في كتاب الحلال والحرام» لصالح بن فوزان بن عبدالله آل فوزان، استقويت به، ولم أجد كتاب «الأدلة والبراهين على أن اليهود والنصارى من المشركين»، وأغناني اهتمام الفوزان بحكم الدين في تسمية النصارى بالمسيحيين. الفوزان حضر في موقعة محمد صلاح، وضع محبوه مقطع فيديو ينهى المسلمين عن حضور «أعياد الكفار، لأن حضورهم إقرار لها.. هذا لا يجوز، ولا تهنئتهم.. لأنها أعياد مبتدعة حتى في دين النصارى ما هي مشروعة».

لا يعلن المتنطعون رفض لقاح كورونا المنتظر وصوله من ألمانيا أو الصين، وتعوزهم الشجاعة فلا يقولون إنهم سيستغنون عنه بلقاح «إسلامي». ولا يتعففون عن التباهي باستعمال أحدث وسائل الاتصالات التي اخترعها مسيحي، وشارك في تصنيعها بوذي. وبدلا من الافتئات على عقائد الآخرين، والادعاء بأن احتفال المسيحيين بعيد الميلاد بدعة، ليتهم تحلّوا ببعض التعقل، وبعض الفطنة؛ فتكون هذه المناسبة فرصة لسلام مشترك، يتذكرون فيه آية «وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّا». ليتهم يتدبرون حكمة الله في أن يولد بهذه الصورة الإعجازية طفل «رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه»، ويؤمن به الآن أكبر عدد من سكان العالم.

بعد أن رأيت غلوّ الكارهين للحياة، شاهدت مقطع فيديو عن الآثار الإيجابية في بريطانيا لوجود لاعبين مسلمين في الدوري الإنجليزي، توقف المعلّق غير العربي أمام «سفراء الإسلام»، وذكر خمسة: صلاح وساديو ماني في ليفربول، ومسعود أوزيل في نادي أرسنال، نجولو كانتي في نادي تشيلسي، وبول بوجبا في مانشستر يونايتد. وقال إنه منذ انضمام صلاح إلى نادي ليفربول في صيف 2017، تراجعت معدلات الجريمة في المنطقة، وانخفضت المنشورات ضد الإسلام في مدينة ليفربول بنسبة 50 في المئة، واستند المعلّق إلى دراسة «أظهرت ظاهرة صلاح لمواجهة الجرائم»، إذ توصلت جامعة ستانفورد إلى انخفاض جرائم الكراهية بنسبة 19 في المئة. فماذا نريد أكثر؟