سعد القرش يكتب:

بالرسوم المسيئة عثرنا على العدو

لم نكن بحاجة إلى “نصائح” الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لكي يتخذ هيئة المعلم، ويمنحنا درجة من عشرة على إجاباتنا الحضارية في كراسة الامتحان، ويسجل توصية بأن الإسلام اليوم في أزمة، بالخلط بين جوهر الدين وسلوك البعض من المسلمين. استعلاء فرنسي يستند إلى رصيد استعماري دام لم تمرّ به نيوزيلندا، فكانت رئيسة وزرائها جاسيندا أرديرن أكثر رشدا، وعالجت بحكمة آثار جريمة الإرهابي الأسترالي المقيم في نيوزيلندا برينتون تارانت، حين نفذ هجومين على مسجدين بمدينة كرايستشيرش في مارس 2019. تضامنت الرئيسة مع المسلمين، في انحياز إنساني ينصف الضحية، وينكر على السفاح حلمه بتحقيق الشهرة بذكر اسمه، فاكتفت بوصفه بأنه مجرم قاتل إرهابي.

لا تلزمنا نصائح ماكرون، فعقلاء المسلمين، منذ زمن، يعرفون حقيقة المأزق بين العقل والنقل، بين الانتماء إلى قيم عصرية والاستلاب خضوعا لأزمنة تعجز عن تقديم إجابات عن أسئلة متجددة. وقد استراحت الملايين بمعايرة يكاد يلخّصها شعار “لا تتهمنا بالعنصرية يا ماكرون فأنت عنصري”. وتجلى الغضب الإسلامي في أمرين: أولهما الإقرار الضمني بوجود جريمة، مع منع الآخر من الكلام عنها، تطبيقا للمثل المصري “أدعو على ابني وأكره مَن يقول: آمين”. والأمر الثاني هو تسويغ القتل والذبح باعتبارهما ردّ فعل على إهانة الإسلام ورسوله بالرسوم الكاريكاتيرية المسيئة. ويدل الأمران على بحث العاجز، قليل الحيلة، عن عدو مناسب، وقد وجده في ماكرون وفرنسا.

في فرنسا والغرب عموما قوانين تحاكم المتهم بمعاداة السامية، وتطارد المشكك في أعداد ضحايا الهولوكوست. أما رفعنا لراية ازدواجية معايير حرية التعبير، والمطالبة بمنح مقدساتنا حصانة مماثلة، فهو شأن لا يخص ماكرون الذي نفرح بمعايرته، في استسهال يؤكد عدم الإحاطة بصعود الاتجاه نحو صنع هذا الإله الصهيوني الذي لا يمسّه نقد. لم تكن معاداة السامية والإقرار بالهولوكوست بهذا الصلف حتى نهاية ستينات القرن العشرين. وبعد انتصار العدو في عدوان 1967، اختلقت القوة المفرطة غطاء أخلاقيا يتذرع بمظلومية تاريخية، جريمة أوروبية لسنا مسؤولين عنها، وهي الهولوكوست. وتم مدّ الخط إلى نهايته بإقرار قوانين تعاقب من يفكر ويبحث هناك. فماذا فعلنا هنا؟

فقدنا أوراقنا، بما فيها ما أقرته المنظمات الدولية. في عام 1975 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 3379، وينص على أن “الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”. تزامن القرار مع توجّه مصر نحو المدار الأميركي، وميلها إلى الفلك الإسرائيلي، ويتلقى كلا الطرفين المصري والإسرائيلي معونة من الراعي الأميركي، وصار العدو صديقا يضمن حياد مصر كلما راق له العدوان على الفلسطينيين، وضرب المفاعل الذري العراقي، وحصار بيروت. وانقسم العرب، ونقلوا مقر الجامعة إلى تونس، وتسلل العدو إلى دول أفريقية كانت ظهيرا لمصر. ومن آثار “السلام” ضغط الراعي الأميركي لإلغاء قرار اعتبار الصهيونية حركة عنصرية، وألغي في ديسمبر 1991.

مهما تبلغ القوة فإنها تتوسل بذرائع أخلاقية لا تلبث أن تصير قوانين ملزمة، وقد اشترطت إسرائيل للمشاركة في مؤتمر مدريد عام 1991 أن يلغى القرار 3379. فهل تدعم مظاهرات الرفض لتصريحات ماكرون تشريعا دوليا يحظر المساس بالإسلام؟ ربما يجادل فرنسيون مستاؤون من تكرار ذبح مواطنيهم، على أيدي مهووسين مسلمين، بالسخرية من المقاطعة الانتقائية: كيف تقاطعون بضائع دولة تشتهونها؟ هل يتخلى المتجنسون وحاملو الإقامة عن مكتسباتهم ويلتحقون بدار الإسلام؟ قبل الزهد في بضائعنا لماذا تلقون بأيديكم إلى التهلكة وتقامرون بأرواحكم في سبيل التسلل إلى شواطئنا؟ كيف يجتمع اشتهاء وكراهية تدفع سلفيين إلى الإعلان عن الحلم برفع الأذان من فوق برج إيفل؟

العدو الصهيوني فرض شروطه، وألغى القرار 3379، ونجح في ما تعجز عنه مظاهرات أثارت عنصرية مضادة. استرحنا في مصر من اقتران نهاية خطبة الجمعة بالدعاء بهلاك اليهود والنصارى، ولكن كتب “الفقه” البشري المعتمدة تتضمن هذا الخطاب. وهناك “فقه” يمشي في الإنترنت، ويقتات بالكراهية، وأستشهد بنموذج “عصري” لهذا الفقه، ويمثله الدكتور أسامة المراكبي، ويعرّف نفسه بهذه السيرة الموجزة: حاصل على الدكتوراه في أصول الدين من جامعة الأزهر، تخصص التفسير وعلوم القرآن، وعمل أستاذا مساعدا بكلية أصول الدين والدعوة الإسلامية في جامعة الأزهر، وبكلية الشريعة والأنظمة في جامعة الطائف. كتب في نهاية أكتوبر 2020 تحت عنوان “حرج زائف” ما يحاول البعض كتمانه.

هذا الحرج يشرحه المقال “أصول الإسلام أن من مقصود الشرع الشريف تحقير المشرك وتحقير معتقده”، “إنما المشركون نجس”، “أولئك كالأنعام بل هم أضل”، “أولئك هم شرّ البرية”، “أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين”. لدى الدكتور أسلحة أخرى، ولكنه قنع بإشارة “…إلخ”. وتلك معان لا يستسيغها أصحاب دعوات التعايش السلمي وقبول الآخر… ويجدون في صدورهم حرجا بالغا من مئات الآيات في القرآن الكريم التي تضرب للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء، فيحمل الحرج بعضهم على تجاوزها.. مجاملة للذوق الليبرالي العام، وفرارا من الحق الذي أنزل الله. هكذا يعلم طلابه أصول حرب عقائدية لن تكتفي نيرانها بساحة الاشتباك مع “العدو” الفرنسي.

الإساءة إلى الرسول لا تسوّغ القتل والذبح، واتهام ماكرون بازدواجية معايير حرية التعبير دليل جهل بطبيعة محظورات ليس بينها الأديان. يتمتع الغربي بحرية البحث والنقد والسخرية من الأديان ورموزها، وصولا إلى المسيح، فالدولة لا تتبنى أي دين، وتقف على مسافة واحدة من معتنقي الأديان ومنكريها. وفي خطاب الشيخ الدكتور أسامة المراكبي تذكير بسابقيه ممن حرضوا على قتل مسلمين بحجة الكفر. أفتى عمر عبدالرحمن الأستاذ بجامعة الأزهر بكفر أنور السادات، فتم اغتياله. وأفتى أستاذ العقيدة بجامعة الأزهر محمود مزروعة بكفر فرج فودة فاغتيل، وبعد قتله شهد مزروعة، مع محمد الغزالي في المحكمة، ببراءة القتلة، واتهم القتيل بجحود الشرع، “لهذا يقتل حدا”.

للقتل والذبح والحرق دوافع غير العدو الحالي “ماكرون”. كانت صحيفة “شارلي إيبدو” في عامها الحادي عشر وماكرون في عامه الرابع يوم اغتيال السادات. ليس لفرنسا ذنب في قتل فرج فودة ومحاولة ذبح نجيب محفوظ. السادات وفودة ومحفوظ لم يسيئوا إلى الدين، إلا وفقا لفهم مشايخ يؤيدون الإرهاب، وقد اعتذر البعض عن قتل السادات، فكيف ينالون المغفرة من قتيل؟ لم تموّل فرنسا عملية قتل 118 من الشرطة والمدنيين، في هجوم عيد الأضحى 1981 على مديرية الأمن بأسيوط. نفذ الجريمة عاصم عبدالماجد ورفاقه، وفي مؤتمر «نصرة سوريا» بحضور محمد مرسي، في يونيو 2013، طاف القاتل استاد القاهرة لتحية الجماهير. فأي مصير كان ينتظرنا؟