عمر علي البدوي يكتب:

تحديث المناهج جزء أصيل من إصلاحات السعودية

حتى مسألة داخلية مثل تغيير المناهج الدراسية في التعليم السعودي لم تسلم من حالة الاستقطاب الذي تعيشه المنطقة، بين طرف يعيد الخطوة إلى مناخ التقارب العربي الإسرائيلي أو الرضوخ لضغوط غربية ودولية، وبين طرف يعتقد أنها تسعى لتفكيك الطبيعة الدينية والمحافظة للمجتمع السعودي، رغم أنها حسب ما يشير المنطق وتصريحات المسؤولين مجرد خطوة إجرائية واستجابة واعية لتحولات البلاد في إطار سعيها نحو التغير الجاد والجريء.

آخر ما جرى اتخاذه في مسألة المناهج الدراسية، ‏هو دمج مواد التربية الإسلامية في مقرر واحد تحت مسمى “الدراسات الإسلامية” ابتداء من الفصل القادم. وقبله، السماح بتدريس مواد الفكر النقدي والفلسفي في مناهج التعليم العام، كما قامت وزارة الثقافة بالحث على إدراج مادة الفنون ضمن المناهج الدراسية.

ترغب الحكومة السعودية حسب توجهاتها الجديدة، في زيادة إدماج القيم العلمية والعصرية في التعليم بما يعالج قصوره وضعفه من جهة، ويساعد في وصل المجتمع والأجيال الناشئة بحراك العالم في المجالات الوظيفية وضرورات المنافسة على الفرص الكبرى من جهة أخرى.

يتغير نمط السعودية في الكثير من المجالات، تستهدف خلال السنوات القادمة أن تكون لاعبا إقليميا ودوليا في المجالات العلمية والصناعية والتقنية والعسكرية المتطورة، الأمر الذي يتطلب رفع كفاءة واستعداد الجيل المتعلم لديها لتبنّي متطلبات الدخول في المنافسة والاحتكاك بشروط التحول، ويبدأ ذلك من مقاعد الدراسة وتصميم المناهج لدعم هذه التوجهات.

فضلا عن إصلاح حقيقي بدأته منذ سنوات سابقة لتبني قيم التسامح وتطوير الوعي الاجتماعي والجاهزية النفسية للأجيال الناشئة لتقبل الآخر ونبذ الأفكار المتشددة والتخفّف من أعباء التفسيرات المنغلقة والعتيقة، إذ كان المجتمع أول من عانى من تبعات التعليم المرتبك الذي لم يكن الخطأ يعود فيه إلى المناهج بالأساس، بل إلى تأثير بعض الأفكار الدخيلة التي تنتجها جماعات مؤدلجة على بعض كوادر التعليم، فيما كانت المناهج تحاذر في مقارباتها بما يعطي ليونة وتساهلا مع بعض الأفكار المتطرفة، تسمح بإعادة توظيفها في الأعمال التي ترفضها النسخة الأصيلة من الدين قبل أن تطاله الشوائب وتعكر صفوه المدخلات الأيديولوجية للجماعات المشبوهة.

قطعت السعودية الطريق على تنامي هذه الظاهرة، بالتفاتة جادة على حالة التعليم لديها، وباتخاذها مجموعة من الإجراءات ضمن مساعي تطبيق رؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بتحويل البلاد إلى مجتمع أكثر تسامحا وإنتاجية، من خلال تحديث المناهج الدراسية لمحاربة التشدد في المدارس وتبني قيم عصرية تؤهل المجتمع لتحديات المستقبل الوظيفية والثقافية. 

كما أن المجتمع نفسه تغيّر، وفرت له منصات الاتصال الاجتماعي وقبل ذلك الفضائيات العربية والأجنبية، والقدرة على السفر المستمر خارج البلاد، مناطق احتكاك مع تنوعات العالم، ولا يمكن أن تبقى المناهج خاضعة لظروف مرحلة تاريخية قديمة، لم تتشوق إلى ما يمكن أن ينطوي عليه المستقبل والمجتمع من تحديات وتحولات عميقة في بنيته وتصوراته، وبذلك يجري إخضاع المناهج ونمط التعليم إلى التحديث المستمر وجعله مواكبا وخاليا من منغصات التطور.

وأكد وزير التعليم السعودي أن المناهج التعليمية في بلاده تنتقل قدما وفق “رؤية 2030” المعتمدة على تعزيز التسامح والوسطية. وقال الدكتور حمد آل الشيخ، وزير التعليم “من يردد من خارج المملكة بوجود تلك الأفكار المتطرفة في مناهجنا، فهم ينظرون إلى النسخ القديمة ولا ينظرون أو يسألوننا عن المناهج الحالية”.

ما قيمة أن تتخذ السعودية بدورها المحوري والمفصلي ثقافيا وسياسيا في الإقليم خيار الإصلاح الديني وتصحيح المناهج، على بقية دول وشعوب المنطقة؟

تلعب السعودية أهمية كبيرة عندما تتبنى التسامح وتخضع منابر التعليم الديني والمدرسة لعمليات إصلاح وتحديث عميقة في بنيتها التكوينية، تملك السعودية تأثيرا متفاوتا على قرابة 40 بلدا يقطنها الملايين من المسلمين والعرب، وسيكون لخيارها في نبذ مشاريع أدلجة الإسلام وإقحامه في المنافسة السياسية على نحو ما تفعل الجماعات الأيديولوجية المتشددة، تأثير واسع في بناء قاعدة اجتماعية وثقافية تتبنى قيما حضارية وإنسانية مهمة.

عندما حاولت جماعات أيديولوجية متشددة أن تستهدف بنية المجتمعات العربية لتتحكم في مزاجها بما يضمن استسلامها لأجندة الجماعة ورضوخها لأيديولوجيتها، حاولت اختراق مؤسسات التعليم، شرعت في ذلك منذ الستينات واستطاعت السيطرة على المشهد والتحكم به من هذه النقطة العميقة في هيكلية المجتمع، بقيت بعض الندوب ماثلة في تفكير المجتمعات العربية والإسلامية وسلوكها.

ولإعادة هندسة المجتمعات بما يتوافق والتوجهات العصرية وضرورات المرحلة، ينبغي أن يبدأ ذلك من التعليم، بتخليصه من آثار رياح التشدد التي عصفت فيه وتجاوز هذا الإرث الدفين، وإعادة موضعة القيم العصرية والمضامين الحديثة لخدمة أهداف البلاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتوجّهها العام نحو التغيير والإصلاح.