د. عيدروس النقيب يكتب:
التصالح والتسامح لا يلتقيان مع الكراهية
اليوم الأربعاء يصادف مناسبتين عميقتي الدلالة.
• فقبل عامين بالوفاء والتمام حصلت جريمة استهداف معسكر العند بمحافظة لحج حينما تجمع أبرز القادة العسكريين الجنوبيين وآلاف الجنود وضباط الصف والضباط في حفل افتتاح العام التدريبي وتم قصف منصة الاحتفال وراح ضحية الهجوم الغادر عشرات من الشهداء والجرحى، أبرزهم الشهيدان اللواء محمد صالح طماح، واللواء صالح الزنداني، ومن المصابين اللواء عبد الله سالم النخعي الذي كوفئ بالإعفاء من مهمته كرئيس لهيئة الأركان العامة للجيش الشرعي، في واحدة من غرائب حالات التعامل مع القيادات العسكرية الشرعية.
مع تقديرنا العالي للزميل العزيز، صغير حمود عزيز الذي حل محله، وهو شخصية مشهود لها بالوطنية والتضحية في مواجهة الجماعة الحوثية.
استشهاد اللواء طماح واللواء الزنداني وإصابة اللواء النخعي في ذكرى التصالح والتسامح أمرٌ له دلالاته، ومعانيه العميقة، فاللواء طماح المشهود له بدوره الوطني المرموق في بناء ثقافة التصالح والتسامح منذ ما قبل انطلاق فعاليات الثورة الجنوبية السلمية، ومساهمته مع رفاقه القادة في بناء حركة الثورة السلمية الجنوبية وحشد كل أبناء الجنوب للتصدي لثقافة الاجتياح والاحتلال والاستباحة التي انتحتها حرب 1994م البغيضة على الجنوب، قد جاء في إطار استهدافه وزميله الشهيد الزنداني والجريح النخعي وشهداء وجرحى آخرين في عملية أراد المنفذون أن يقولوا من خلالها: لن ندعكم تكملون مسيرتكم التسامحية، وسنلاحقكم إن كنتم خارج الشرعية أو معها.
ولن نناقش هنا لماذا كل العمليات الغادرة لا تستهدف إلا القيادات الجنوبية، مع الشرعية أو خارجها؟
رحم الله الشهيد طماح والشهيد الزنداني ورفاقهما الشهداء، وكل ضحايا الغدر والخيانة، وشفى الله اللواء النخعي وجميع الجرحى.
***
في ذكرى التصالح والتسامح يجدر بنا وبكل جنوبي وبكل دعاة ثقافة التسامح التذكر دائما أن التسامح نقيض الانتقام والتصالح نقيض المواجهة، والتصالح والتسامح لا معنى للحديث عنهما ما لم يقترنا بسلوك يومي يجسد معانيهما النبيلة ويترجمهما إلى ممارسة وإلى قناعة ذهنية وعاطفية قبل أن يكونا مجرد شعار يرفع هنا ويستغنى عنه هناك.
التصالح والتسامح يعنيان تعلم ثقافة التنازل عن المصالح الفردية أو الفئوية أو الجهوية الصغرى من أجل المصالح الوطنية والمجتعية الكبرى.
ولكي يغدو التصالح والتسامح حقيقة واقعة يجب أن تتحولا إلى ثقافة راسخة في السلوك والوعي، بما في ذلك ممارسة القسوة على الذات عندما يتعلق الأمر بخسائر ماضوية صغيرة أو حتى كبيرة مقابل مصلحة وطنية أكبر وأوسع وأشمل، لأن التصالح والتسامح هو من أجل المستقبل، أما خلافات وصراعات الماضي فقد مضى زمنها وما استرجاعها إلا بمثابة إعادة لعجلة الزمن إلى الخلف وهو ما يخالف قوانين الطبيعة والمجتمع معاً.
***
تعجبت اليوم وأنا أقرأ لأحد الزملاء حديثا عن "ثمن الكراهية" وهو يجري مقارنة بين انخراط المجلس الانتقالي الجنوبي في العملية السياسية والمشاركة في حكومة المناصفة وبين حديث الأخ اللواء عيدروس الزبيدي رئيس المجلس عن حتمية استعادة الدولة الجنوبية من خلال حل الدولتين، وراح الزميل (كاتب المقالة)، الذي عندي يقين كامل بأنه يلمّ إلماماً كاملاً بتفاصيل القضية الجنوبية منذ 1994م، راح يتحدث عن ثقافة الكراهية وكأنه يتهم المجلس الانتقالي بالتسبب بها، وأنه يسعى لمداواة هذه الظاهرة "التي زرعها".
الحديث من خلال هذه الأقاويل لا يختلف كثيرا عن مقولة "قتل الجنوبيين للشماليين المدنيين" ونقاش هذا الأمر يطول ويطول، لكننا نذكر هنا كل من طوى النسيان ما في ذاكرتهم بالحقائق التالي:
1. إن قضية استعادة الدولة الجنوبية ليست موضوعا جديداً ولم تطرح ولن تطرح للمناقشة ولا يحق لأحد أن يناقشها أو يعدل فيها إلا الشعب الجنوبي وحده، وتأكيد الأخ رئيس المجلس الانتقالي حولها لم يأتِ إلآ في سياق الرد على أسئلة عديدة تتعلق بجذور وتشعبات الأزمة اليمنية الراهنة بما فيها القضية الجنوبية وثنائية الشمال والجنوب.
2. إن الكراهية كثقافة وممارسة ليست جرعة تحقن في الوريد أو كبسولة تؤخذ عن طريق الفم فيصير متعاطيها كارها وكراهيا، بل إنها ممارسة، وسلوك تتجسد على الأرض، وحكاية "التحريض على كراهية كل الشماليين"، لم يمارسها إلا أولئك الذين ارتبطوا بأجهزة المخابرات وأدوا خدماتهم لها ثم عادوا من حيث أتوا أما الشعب الجنوبي وقواه السياسية الحية وعلى رأسها المجلس الانتقالي فليسوا سوى جزء من ضحايا ثقافة الكراهية.
3. وفي سياق الحديث عن الكراهية ينبغي التمييز بين السلوك الفردي الذي قد ينشأ عن اليأس والإحباط والشعور بانسداد الآفاق وخسران المستقبل كحالة يمكن تسميتها بالكراهية الصغرى، وبين الكراهية كسياسة رسمية ممنهجة تتبعها سلطة حاكمة، من خلال سلب الحقوق وقمع الحريات، ونهب الثروات والسطو على الممتلكات والطرد من العمل، ومحو التاريخ والهوية والثقافة وإعدام كل ما يشعرك كمواطن بانتمائك إلى هذا الوطن.
فالأول سلوك فردي يمكن تفهمه أو حتى إدانته بإدانة صاحبه فرداً كان أو مجموعة أفراد، أما عندما تغدو الكراهية سياسة رسمية فإن مجرد إدانتها تصبح إجراءً أشبه برفع العتب ليس إلا، والمطلوب هو اجتثاثها ومعاقبة من كرسها وشرعنها وقوننها تجاه شعب كامل.
وباختصار فإن الكراهية (الصغرى) الفردية والعشوائية التي قد تشهدها لدى بعض الجنوبيين، لم ولن تنشأ إلا كردة فعل للكراهية الرسمية الممنهجة التي مورست على شعب الجنوب على مدى ربع قرن من الإقصاء والتهميش والتخوين وتكميم الأفواه والقتل والتنكيل، ومن أجل استئصال الكراهية الصغرى ينبغي استئصال الكراهية الأم، وهذا لن يتأتى من خلال بوس اللحى ورمي العمائم، بل من خلال رد الاعتبار للتاريخ الجنوبي والشعب الجنوبي، وأقل ما ينبغي في هذا السياق احترام إرادة الشعب الجنوبي وحقه في استعادة دولته، مثل احترام حق الشعب الشمالي في اختيار طريقه المناسب لاستعادة دولته هو الآخر.
المتهجمون على ثقافة التصالح والتسامح الجنوبي والرافضون لها، لا يرغبون إلا بمزيد من الكراهية بين أبناء الجنوب، والكراهية لا تتسق مع التسامح والتصالح، والأخيران لا يترسخان ولا يتسقان مع الكراهية وهذه أبجدية لا تتطلب المهارة والعبقرية ولا الشهادة الأكاديمية لاستيعابها.