عدنان برجي يكتب:
خلاصات يوم التنصيب الأميركي
شهِد العالم، يوم أمس 20 كانون الثاني 2021 ، مراسم تنصيب الرئيس السادس والأربعون للولايات المتحدة الأميركية جو بايدن، أكبر الرؤساء الأميركيين سنُّا.
هذا التنصيب اختلف عن كل المراسم المُشابهة السابقة، ليس بسبب جائحة كورونا فحسب، بل بسبب انقسام المجتمع الأميركي عاموديًا الى قسمين، وقد تم التعبير عن ذلك، ليس فقط في نتيجة الانتخابات الرئاسيّة (75 مليونًا مقابل 81 مليونًا)، انما بإلقاء خطابين في يوم التنصيب: خطاب الرئيس المُغادر دونالد ترامب من مطار القاعدة الجوية " اندروز" وخطاب الرئيس القادم من مبنى الكابيتول.
ترامب خاطب الجمهور الذي انتخبه، وهو يمثّل نصف المجتمع الأميركي، مؤكدّا انه رئيس استثنائي حقّق للأميركيّين ما عجِز ويَعجز عنه الآخرون، حتى انّه تباهى مثلا بإنجاز لقاح ضد كوفيد 19 بمدة تسعة أشهر، معتبرًا انه لو كان على رأس الادارة الأميركية شخص آخر لما استطاع تأمينه قبل خمس سنوات. تجدر الإشارة الى ان بلدانًا أخرى اكتشفت اللقاح في المدّة نفسها او ربما بوقت أقل.
ترامب أراد ان يعمّق الانقسام العامودي في المجتمع الأميركي، متوقعّا عودته على حصان أبيض الى الرئاسة مرة ثانية، او على الأقل اعتبار نفسه رئيس ظل.
الرئيس جو بايدن، دعا الى الوحدة بين الأميركيّين، وعدّد فضائلها وميزاتها وأهميتها وضرورتها ، بما يوحي ان هذه الوحدة في خطر حقيقي، وانّها مهدّدة بالضياع. كذلك دعا الى التمسك بالديمقراطيّة، سلاح الإدارة الأميركيّة، ليس لانتقال السلطة في الداخل فقط، انّما لتبرير التدّخل في شؤون الدول الأخرى، وفرض العقوبات عليها بحجّة غياب الديمقراطيّة، والانتقاص من حقوق الإنسان فيها.
ما جرى في يوم تنصيب الرئيس الأميركي جو بايدن، ليس تعبيرًا عن اختلاف بين شخصين أو بين حزبين، انه تعبير عن مجتمعين قائمين داخل الولايات المتحدّة الأميركيّة، وقد جرى التعبير عن ذلك في الاحتجاجات، الكبيرة والواسعة، داخل اكثر من ولاية، وأثناء الانتخابات الرئاسيّة. مما يعني ان التعصبّ العنصري الذي غاب لعقود عن الشاشة ما زال موجودًا في النفوس وإن ألغته النصوص. يساعد على تفشّي العنصريّة: تراجع النفوذ الأميركي الخارجي، حتى عند الحلفاء الأوروبيّين، وتراجع الإقتصاد الأميركي أمام الاقتصادات الآسيويّة، وعدم قدرته على استمرار الرخاء الخادع الذي عاش فيه المواطن الأميركي عقودًا من الزمن.
إنّ التراجع الخارجيّ، مع تراجع القدرة الاقتصاديّة وجائحة كورونا، كلّها عوامل دفعت لأن تظهر على السطح الانقسامات العاموديّة في المجتمع الأميركي.
هل يستطيع بايدن، بخطابه الأبويّ والعاطفيّ، أن يعيد اللُحْمة الى المجتمع الأميركي؟ أشك في ذلك للأسباب التالية:
1- التناقض بين زيادة الرغبات الأميركيّة على غير صعيد، وتراجع القدرات على تحقيقها، اقتصاديّا أولًا، وعسكريًّا ثانيًا، وسياسيًّا ثالثًا. ففي الجانب الاقتصادي تبيّن، في النتيجة، أن الحروب الأميركيّة في بداية القرن الحالي أنهكت الاقتصاد الإميركي، ولم تقدّم له ما كانت إدارات المحافظين الجدد تُروّج له، من رخاء نتيجة نهب الثروات للبلدان المحتلّة. لقد استطاعت المقاومات للاحتلال الأميركي، ان تجعل من كلفة الاحتلال اكبر من قيمة الثروات المنهوبة، واستطاعت دماء الشهداء، على غزارتها ونُبلها، إظهار زيف الإدّعاءات الأميركية بالديمقراطيّة وحقوق الإنسان. وعسكريًّا، استطاعت دولة محاصرة كإيران أن تقيم توازن ردع مع الأساطيل الأميركيّة. أمّا سياسيًّا فقد استطاع دونالد ترامب ان يُبعد أقرب الحلفاء عنه، وأن يدفع بهم للتعاون مع روسيا والصين، والاتفاق الألماني - الروسي حول تمديد أنابيب الغاز برًّا وبحرًا خير مثال على مانقول.
2- لقد أفرط الأميركيّون في استخدام سياسة العقوبات على الدول، والشركات، والأفراد، لذلك أصبح السعي الى تغيير النموذج الإقتصادي العالمي ضرورة عند الدول الصاعدة، وفي مقدّمها الصين وباقي الدول الآسيويّة، وهي تسعى بقوة في هذا الإتجاه. يساعد على ذلك أن قاعدة الإنتاج الصناعي لم تعد في دول الغرب بل في دول الشرق. وهناك تقديرات جديّة أن اقتصاد الصين سوف ينتقل من المرتبة الثانية عالميًا الى المرتبة الأولى خلال خمس سنوات على أبعد تقدير.
3- مرحلة سقوط الاتحاد السوفياتي، وسيطرة اميركا على العالم، قد انتهت. فروسيا بقيادة الرئيس بوتين استطاعت الحفاظ على تطورها العسكري، واستطاعت مقارعة الحلف الاطلسي في أوروبا الشرقيّة ومنافسته في تركيا، واستطاعت الخروج الى المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط، واصبحت لها اليد الطولى في سوريا.
4- الصين، لم تعد قوّة إقتصاديّة صاعدة فحسب بل بدأت تطوير قواها العسكريّة، البحريّة، والجويّة، والبريّة. انّ باستطاعة الحكومات الأميركية إثارة القلاقل للصين، في تايوان أو هونغ كونغ، او الأقليات، لكن ليس باستطاعتها وقف التقدّم الصيني وفق الرؤية الاستراتيجيّة التي أرساها الرئيس الحالي شي جينبينغ. لقد سبق لي، ان قارنت قبل عامين بين الاستراتيجية الأميركيّة والاستراتيجيّة الصينيّة، وخلصت الى أن السبق سيكون للصين، ولا زلت عند هذه القناعة، لأسباب علميّة وموضوعيّة بالتأكيد. ان العالَم يتفق مع التوجّه الصيني الى ضرورة السلام بين الشعوب، والتعاون بين الدول، والتنمية للمجتمعات، وينبذ منطق الحروب، والإحتلال، والعقوبات، ونهب الثروات.
في الخلاصات:
1- سوف يضطر الرئيس جو بايدن الى الإنهماك في الداخل الأميركي، وسيبقى شبح "الترامبيّة" أمامه في كل القرارات والسياسات التي سوف يعتمدها.
2- سوف يستمر التراجع الأميركي عند الحلفاء الأوروبيّين، فعند تغيير الدول تبحث كل دولة عن مصالحها، والمصالح الأوروبيّة لم تعد حكرًا في أميركا.
3- محاولات إنكار التراجع الأميركي سوف تستمر، لكن لن يقتنع بذلك إلا الذين يعيشون في الماضي ولا يرون من أين تشرق شمس المستقبل.
4- التعهدّات الأميركيّة لم تعد موضع ثقة أحد من الدول، لا سيما بعد انقلاب ترامب على الإتفاق النووي الإيراني الذي وقعّه سلفه أوباما.
5- العقوبات لن تكون سوى عصا غليظة، لكن الدول تستطيع التعايش معها أو تجاوزها، والمثال كوبا وايران.
6- من الصعب جدّا أن نرى مواجهات كبرى، او تسويات كبرى، فعلى الأرجح سوف يستمر التقدّم البطيء للدول الصاعدة، والتراجع البطيء لأميركا، مع ضربات مختلفة من هذا الطرف أو ذاك، إمّا تثبيتًا لتقدّم مستجد، وإما تغطية على تراجع حاصل.
7- لقد انتهى زمن القطبيّة الواحدة، ودخل العالم في زمن المحاور المتعدّدة