د. عبد الإله بلقزيز يكتب:

الممكن الاقتصادي في الوحدة

عرفتِ البلاد العربيّة المعاصرة فكرة التّعاون الاقتصاديّ وسَكَنَها حُلم الاندماج منذ وقتٍ مبكّر من سنوات الخمسينات من القرن العشرين الماضي. يكفي المرءَ منّا أن يعود إلى أرشيف الاتّفاقيّات العربيّة، في الميادين الاقتصاديّة والتّجاريّة ومشروعات الاستثمار المشترك، بينها، في إطار جامعة الدّول العربيّة، ليقف على وجوهٍ من التّقدُّم في الوعي أفصحت عنه السّياسة الرّسميّة العربيّة، في ذلك الإبّان، وليكتشف إلى أيّ حدٍّ بَلَغ الطموح، تلك اللّحظة من التّاريخ، في بناء مجالٍ اقتصاديّ عربيّ قويّ ومندمج.

ومن آيِ ذلك، مثلاً، أنّ فكرة سوقٍ عربيّة مشتركة تبلورت في السّياسة العربيّة تلك، وفي برامجها، حتى قبل أن تشرع أوروبا في بنائها، بعد ذلك، بسنوات عدّة (هذا دون أن نتحدث عن معاهدة «الدّفاع المشترك» لحماية الأمن القوميّ العربيّ وغير ذلك من اتّفاقيّات مشابهة)، وكانت مشروعاً مطروحاً لتنفيذٍ لم يتمّ من أسفٍ شديد.

ويمكننا أن نتخيّل، في ضوء تلك الطّموحات، كيف كانت ستكون صورةُ الوطن العربيّ، اليوم، لو خِيض في تنفيذ الكثير من أمّهات تلك الاتّفاقيّات والمشاريع المشتركة، تنفيذاً فعليّاً وكم من المشكلات التي يتخبّط فيها، في الرّاهن، كانت ستزول؛ وكم من الأزْمات الاجتماعيّة كان يمكن حلُّها والسّيطرة عليها. وليس المجال، هنا، مجالَ الخوض في العوامل والأسباب التي حالت دون نجاح ذلك المسعى القديم إلى بناء مجالٍ اقتصاديّ عربيّ مشتَرَك ومندمج، بل يكفينا أن نسجّل حقيقةً نحتاج إلى استذكارها، اليوم، والاتِّعاظِ بدراستها والبناء عليها في المستقبل؛ وهي أنّ إدراكاً عربيّاً عميقاً وحادّاً بالحاجة إلى الوحدة الاقتصاديّة مَيَّز السّياسة الرّسميّة العربيّة في حقبةٍ كانت فيها الدّولُ العربيّة شديدةَ التّمسُّك بسياداتها الوطنيّة – كما هي اليوم تماماً – ولكنّ ذلك لم يكن يمنعها من أن تلْحظ وجوه المصلحة والفائدة في تعاوُنٍ شاملٍ بينها يُفضي إلى اتّحادٍ اقتصاديّ.

ولقد كان يمكن لِما وَقَع الإخفاق في تحقيقه من اتّحادٍ واندماج بين الدّول العربيّة مجتمعةً، في إطار اتّفاقيّاتها داخل الجامعة، أن يقع إنجاحُه – ولو جزئيّاً- في نطاق اتّحاداتها الإقليميّة التي أقامتها، في سنوات الثّمانينات («مجلس التّعاون لدول الخليج العربيّة»، «مجلس التّعاون العربيّ»، «اتّحاد المغرب العربيّ»)، غير أنّ التّجربة هذه أخفقت بانفراط أحدها («مجلس التّعاون العربيّ»)، بعد أزمة الخليج وحربه الثّانية، وشَللِ الثّاني منها («اتّحاد المغرب العربيّ»)، بعد قضية لوكربي والحصار على ليبيا، ولم يُحْرِز نجاحاً ملحوظاً منها سوى «مجلس التّعاون لدول الخليج العربيّة». ولكن التّعاون الإقليميّ، على أهميّته والحاجة إليه، لا يمكنه أن يكون بديلاً من تعاوُنٍ وشراكةٍ أشملين على صعيد الوطن العربيّ برمّته؛ لأنّ هذا وحدهُ الذي يخلق الفضاء الاقتصاديّ القويّ والمندمج الذي من شأنه أن يحوّل البلاد العربيّة إلى قوّةٍ هائلة ذات قدرة على إجابة حاجاتها وحماية أمنها الاقتصاديّ والغذائيّ.

من البيّن أنّنا نتحدّث، هنا، عن وحدةٍ ممكنة لا عن هدفٍ مستحيل. وهي ممكنة لأنّ مبناها على مصالح جماعيّة مشتركة أيًّا تكُنِ التّبايُنات السّياسيّة بين الشّركاء فيها. إنّها وحدة تُحَيِّد الانقسام السّياسيّ وما يقترن به من خلافات، وتترك لنتائج التّعاوُن الاقتصاديّ والاعتماد المتبادَل أن تُذلِّلها وتمحوها، تماماً مثلما ذلّل التّعاون الألمانيّ – الفرنسيّ، في سنوات الخمسينات، ومَحَا، نزاعات البلديْن التي كانت أخذتْهما إلى حربيْن كبيرتيْن مدمّرتيْن في النّصف الأوّل من القرن العشرين. إنّ المدخل الاقتصاديّ التّعاونيّ – الاندماجيّ هو، اليوم، المدخل الأمثل والأضمن نجاحاً لعمليّة التّوحيد العربيّ.

لقائلٍ أن يقول إنّ هذا الهدف متواضعٌ جدّاً، وغير مطابِق لفكرة التّوحيد القوميّ، بل هو قد يمثّل تراجعاً عنها إلى ما دونها. والقولُ هذا مردود من وجوه عدّة: من حيث إنّ الممكن الواقعيَّ المتاح هو هذه الحلقة الابتدائيّة والضّروريّة من التّوحيد (الاقتصاديّ)؛ ومن حيث إنّ فكرة التّوحيد القوميّ الشّامل لم تَجد لنفسها بعد الحاملَ الاجتماعيّ والسّياسيّ الذي ينقُلها من حيّز الفكرة إلى حيّز التّحقّق الماديّ؛ ثمّ من حيث القيمة الرفيعة لأيّ اندماجٍ اقتصاديّ يمكن إحرازُه عربيّاً. ونحن لا نبالغ إن قلنا إنّ هذه الوحدة الاقتصاديّة خليقة بأن تولِّد نتائجُها حقائقَ جديدة على صعيد تمتين علاقات التّرابط بين الشّعوب العربيّة إلى الحدّ الذي ربّما تصبح فيه الوحدةُ السّياسيّة على جدول الأعمال: حاجةً موضوعيّة (لا ذاتيّة فحسب) نضجت شروطُها.