د. عبد الإله بلقزيز يكتب:
أفولُ جماعة «الإخوان»
يبدو أنّ شهر العسل الأمريكيّ- الإخوانيّ، ثمّ الأوروبيّ- الإخوانيّ تَصَرَّم وانقضى وطواهُ النّسيان، من جانب الدّول الكبرى، لينزل ذلك على الجماعة بكثيرٍ من المرارة لخسارة ظرفيّةٍ دوليّة مثاليّة مؤاتيّة «نزلت عليها من السّماء»، من حيث هي لم تحتسب ولا احتسب معها ذلك أحدٌ.
لم يعد أحدٌ في الولايات المتّحدة - منذ وصول ترامب إلى السّلطة - يتحدّث عن «الإخوان» والإسلاميّين بالمفردات التّبجيليّة التي استخدمتْها كونداليزا رايس وهيلاري كلينتون في وصفهم، بما هُم دعاةٌ للحريّة والدّيمقراطيّة والمشاركة السّياسيّة! انتهت تلك الحقبة التي كان فيها «الإخوان» جياداً للتّغيير - على مثال ما كان «المجاهدون» الأفغان «أبطالاً للحريّة» على لسان رونالد ريغان في الثّمانينات! - والتي كان الأمريكيّون فيها منقذين - في عُرْف «الإخوان» - تُرْفَع الأكفّ للدّعاء لهم، كما في ميدان رابعة، على نصرتهم الإسلامَ والمسلمين. أمّا المعتقَد السّياسيّ الذي اعتنقه المحافظون الجدد، وسار فيه الدّيمقراطيّون بعدهم، والذي لخَّصته كونداليزا رايس بعبارتين - صارتا سياسةً رسميّة - هما: عدم ممانعة أمريكا في وصول الإسلاميّين إلى السّلطة، ثمّ حاجة منطقة «الشّرق الأوسط» إلى «فوضى خلاّقة»...، فقد تبدَّد في الواقع ودخلت وثائقُه الأرشيف التّاريخيّ وكأنْ لم يكن ساريَ المفعول.
لا يختلف الأمر في أوروبا كثيراً. منذ بدأت التّحقيقات البريطانيّة - في العام 2014 على عهد رئيس الوزراء كاميرون - في شأن أنشطة جماعة «الإخوان» ومؤسّساتها، تسارعت خطى إجراءات التّضييق على عملها في البلدان الأوروبية جمعاء. وبلغ ذلك ذروته في صدور قرار الاتّحاد الأوروبيّ بمكافحة الإرهاب والتّطرّف في منتصف العام 2021، ثمّ مصادقة المجلس الوطنيّ في النّمسا، قبل أشهر، على قانون خاصّ بمكافحة الإرهاب يُتوقّع أن يشمل «الإخوان» ضمن قائمة حظر المنظّمات الإرهابيّة.
وإذا أضيف إلى ذلك حلّ الجماعة لمكتبها في تركيا، والمغادرة الجماعيّة لأطرها البلادَ، تحت وطأة التّضييق التّركيّ عليها، اجتمعتِ الأسبابُ كافّة للقول إنّ الحواضن التّقليديّة للجماعة ومؤسّساتها واستثماراتها تُغلَق، اليوم، في وجهها واحدةً تِلْو أخرى لتجدَ نفسَها من دون ظهيرٍ أو نصير.
من النّافل القول إنّ ارْفضاض رعاةِ الجماعة عنها أتى يترجم خيبةً لديهم منها في أن تنهض بما أُوكِلَ إليها من أدوارٍ من قِبَلهم في المجتمعات العربيّة التي كانت ساحةً لفعلها السّياسيّ. لقد كانت الفجوةُ هائلةً، عند رعاة الجماعة، بين ما خطّطوا له لتغيير جغرافيا الوطن العربيّ السّياسيّة، فأسندوا إليها تنفيذه، وما أمكنَ الجماعةَ أن تحصده من نتائجَ بدت لهم متواضعة، بل هزيلة. وبمقدار خسارة الجماعة مشروعَها الممتطي صهوةَ الخارج، كانت خسارةُ الأخير هائلةً: سياسيّاً وماليّاً واستراتيجيّاً ثمّ معنويّاً.
ولكنّ من النّافل أيضاً القولُ إنّ إخفاق مشروع الجماعة في الاستيلاء على المصير، السّياسيّ والمجتمعيّ، العربيّ مأتاهُ من نجاح الوطن العربيّ في تفعيل موارد المقاومة الذّاتيّة لديه، وإطلاقها لصدّ زحف مشروعٍ كان سيأخذ الأمّة إلى حتفها لا محالة.
على أنّ هذه النّكسات المتلاحقة التي شهدت عليها جماعة «الإخوان المسلمين»، منذ سقوط نظامها في مصر في العام 2013 إلى خروجها من السّلطة في بلدين من المغرب العربيّ في العام 2021، ارتدّت على داخلها السّياسيّ والتّنظيميّ بفادح التّبعات، فضربت وحدتها في الصّميم. دفعت في مصر ثمن سياساتها التي نهجتها حين كانت في السّلطة، وثمن جنوحها للعمل المسلّح وضرب مؤسّسات الدّولة، فكان أن تعرّض وجودُها التّنظيميّ إلى ما يشبه الاستئصال في الدّاخل. وبعد أن توزّع قسمٌ كبير من أطرها في الخارج، ها هي الملاذات القديمة (أوروبا، تركيا) تحملها على الرّحيل أو على تجميد النّشاط كليّةً. وإلى ذلك انشقّ عنها قسمٌ من جمهورها المحازب الذي قام بمراجعةٍ ونقدٍ ذاتيّ لتجربته فيها. واليوم يبلغ الانقسام داخل الجماعة أشُدّه، ويصل احتدام التّناقض بين المنقسمين حدود التّلاسُن والتّلاعُن والكشف المتبادَل عن فضائح الفساد والتّلاعب الماليّ.