ينظر الكثيرون إلى الاقتصاد الاستهلاكيّ السّائد، وإلى تزايُد وتائره ووفرة معروضه، واتّساع نطاق الميادين الاجتماعيّة التي يشمُلُها بحسبان ذلك كلِّه من الآثار العاديّة والمتوقَّعة لعمليّة التّنميّة الرّأسماليّة، ولتعاظُم حركة الإنتاج التي تتولّد منها.
الرّأسمال، في هذه النّظرة، يتعاظم كلّما اتّسع نطاق الاستثمار، وتعاظُمُه يدفع عجلة الإنتاج في ميدان الحاجيات الاجتماعيّة و، بالتّاليّ، يُنشِّط دورةَ اقتصادٍ يتميّز، شيئاً فشيئاً، بانصرافه إلى إشباع حاجاتٍ متزايدة لمستهلكين متزايدين. والنّتيجةُ أنّ ما نعاينُه من رسوخٍ لثقافةٍ اجتماعيّة استهلاكيّة، في مجتمعات الأرض وفي المجتمعات الغربيّة على نحوٍ خاصّ، ليس أكثر من تعبير عن دورةٍ إنتاجيّة واقتصاديّة موضوعيّة وحتميّة يفرضها التّطوُّر: من منظور سرديّة إيديولوجية تُحَيِّد الاستهلاك والنّمط الحياتيّ الاستهلاكيّ من أيّ غائيّةٍ أخرى غير تلك التي يدّعيها منظّرو هذا الاقتصاد: إشباع الحاجات!
ولقد يمكن أن يُنْظَر، بعين الحياد، إلى الاستهلاك بوصفه مسلكاً طبيعيّاً يأتيه النّاس لإشباع حاجاتٍ حيويّة موضوعيّة لديهم. وبالمعنى هذا سيُنْظَر إلى الإنتاج، بالتّبِعة، بما هو تلك الفاعليّة التّحويليّة التي تجعل ذلك الإشباع ممكناً وتوفّر له مادّته/موادّه. حينها، قد لا يُشْتَبَه في الاستهلاك ولا في نوعٍ من الاقتصاد يخلقه. ولكنّ هذه النّظرة، وإن كانت تقول مبادئَ أوّليّةً في الطّبيعة البشريّة، تخفي الوجهَ الآخر للمسألة؛ أي ذلك الذي يتحوّل فيه الاستهلاك من وسيلةٍ حيويّة، أو وسيلةٍ لحفظِ البقاء، إلى هدفٍ بعينه يُسْعَى إلى تنميته وتكريسه وبرمجةِ الإنتاج والاقتصاد والمجتمع والإنسان عليه. والأنكى من ذلك حين يُسْعى إلى توليد معياريّةٍ اجتماعيّة جديدة منه، تتراتب بها المَقامات، قائمةٍ على معدّلات الاستهلاك. نحن، هنا، لسنا أمام مفهومٍ مجرّدٍ هو الاستهلاك، بل أمام واقعٍ ماديّ جديد يُسمّى الاقتصاد الاستهلاكيّ أو نمطٍ من العمل الإنتاجيّ يتغذّى من تنمية قيم الاستهلاك في المجتمع.
هذا هو اليوم، من غير زيادةٍ أو نقصان، الاقتصاد السّائد في العالم. بدأ في مجتمعات الغرب وتَعَزّزَ وعَظُم حجماً، ثمّ انتقلت نماذج منه إلى مجتمعات الرّأسماليّة التبعيّة في بلدان الجنوب. إنّه اقتصادٌ غيرُ إنتاجيّ، في المقام الأوّل، والرّأسمال فيه يميل، حثيثاً، إلى أن يعيش داخل بيئات الاقتصاد الطّفيليّ سريع العوائد والأرباح. وربّما كان ذلك يلائم مجتمعات ما بعد الاقتصاد الصّناعيّ الجانحة نحو الرّأسماليّة المالية والاقتصاد الافتراضيّ (على ما فيهما من كلفةٍ باهظة تبيّنت في الأزمة الماليّة للعام 2008)، والمحقِّقَةِ تراكماً هائلاً من مرحلة التّصنيع، لكنّه لا يلائم - قطعاً- مجْتمعاتٍ لم تَلِجِ العهد الصّناعيّ بعد، أو هي وَلَجَتْهُ في حدودٍ نسبيّة رمزيّة. الأهمّ من هذا ومن ذاك أنّ هذا الاقتصاد الاستهلاكيّ المعمَّم يولِّد، حيثما حَلَّ هنا وهناك، قيماً اجتماعيّةً استهلاكيّة (أحياناً حيوانيّة) تستعبد الإنسان، وتعطِّل فيه مَلكات العقل والإنتاج والعمل، والتّوازن في الإنفاق، ليتحوّل، من حيث لا يدري، إلى حيوان مستهلك!
لهذا الاقتصاد الاستهلاكيّ بيئةٌ ينمو فيها ويتكاثر، ولا يمكنه أن ينشأ إلاّ في وجودها، وهي البيئة المدينيّة. والتّمدين الاجتماعيّ لا يُقْصد به الفضاء الجغرافيّ-السّكّانيّ (= المدينة) حصْراً، وإنّما ما يقترن به من علاقات ونُظم اجتماعيّة وحياتيّة وقيم وعوائد لا تتكوّن إلاّ في العالم المدينيّ. ولقد تكفّلتِ الحداثةُ الماديّة - الاجتماعيّةُ والاقتصاديّة - بإِنجاب هذه البيئة على مدًى من الزّمان طويل أعْمَلَ فيه التّحديثُ أدواته، جنباً إلى جنب مع الرّسملة الشّاملة للعلاقات الإنتاجيّة. وحين انعطف الاستثمار الرّأسماليّ نحو إنتاج اقتصادٍ استهلاكيّ، كانت بيئتُه المناسبة قد تهيّأت، سلفاً، لتؤمِّن له يُسْر الاختراق والنّجاح و، في الوقت عينِه، الإمكانَ الفعليّ لإعادة إنتاج نفسه ولديمومته. ولعلّ اتّساع النّطاق الاجتماعيّ للطّبقة الوسطى، في بلدان الغرب، مكّن لذلك الاقتصاد الاستهلاكيّ من أن يَفْشُوَ أكثر، ومن أن يكتسيَ طابعاً جماهيريّاً أخرجه من النّطاق الضيّق للطبقات العليا ذات القدرة العالية على الاستهلاك، وفتح الباب أمام صيرورته نمطاً معمَّماً على الصعيد المدينيّ.
وليس معنى ذلك أنّ قيم الاقتصاد الاستهلاكيّ لم تَطأ الفضاءات الاجتماعيّة غير المدينيّة، مثل العالم القرويّ؛ ذلك أنّ هذا الأخير لم يَسْلَم من اجتياح تلك القيم له ومزاحمة النّظم الحياتيّة والعوائد، الموروثة والمرتبطة - أساساً - بنظام الاقتصاد الزّراعيّ. وزاد من تيسير ذلك الاختراق التّدميرُ الرّأسماليّ لأنماط الحياة القرويّة ولاقتران الاستهلاك فيها بالإنتاج المباشر، والنّجاح في الإدماج التّدريجيّ للمجال القرويّ في النّظام الاجتماعيّ العامّ، بما فيه نظام الاستهلاك المعمّم. مع ذلك، يمكن - دائماً - ملاحظةُ الفوارق الكبيرة بين أنماط الاستهلاك الحادّة في المدن ونظيرتها في القرى في قسمٍ كبيرٍ من مجتمعات الغرب. ولكنّها تُترجم لحظةً انتقاليّة في مسارٍ جارف أكثر ممّا تعبّر عن "مقاومات" ريفيّة لانتصار قيم المدينة واقتصادها وطبقاتها الاجتماعيّة.
في كلّ حال، يعكس الاقتصاد الاستهلاكيّ مفعولَ ديناميّةٍ موضوعيّة مُحايِثة لمنطق الرّأسمال ومنطق الرّبح: يعيش الرّأسمال من الإنتاج - بتسخير قوّة العمل أو الآلة - ويعظّم أرباحه، لكنّ دورة الإنتاج لا تستمرّ من دون استهلاكٍ يستوعب معروضاته. لذلك ليس أمام الإنتاج - ومن ورائه الرّأسمال - غير تنمية معدّلات الاستهلاك؛ ليس من طريق تجويد المنتوجات فحسب، بل من طريق اصطناع حاجات جديدة تخلُق، مع الزّمن، عوائدَ استهلاكيّة جديدة. كان يقال، في ما مضى، إنّ الحاجة هي أمّ الاختراعات، وبلغتنا: هي التي تفرض الإنتاج لتلبيتها وإشباعها. وهكذا كان الاستهلاك والحاجةُ المستهلَكَةُ الطّاقة الدّافعة لتحريك فاعليّة الإنتاج. اليوم، لم يعُد الاستهلاك هو من يخلُق الإنتاج ويبرّره، بل أضحى الإنتاج هو ما يخلُق الاستهلاك وينوّع من أشكاله!