عبدالرحمن الخضر يكتب لـ(اليوم الثامن):
السياسة الأمريكية.. ثبات النهج وسط تقلب الوجوه
لا تُقاس السياسة الأمريكية بمواقف رؤسائها المتعاقبين، بل بمنظومتها المؤسسية التي صيغت بعناية فائقة لضمان ثبات المصالح العليا للدولة، حتى في خضم تبدّل الإدارات واختلاف الخلفيات الأيديولوجية للأحزاب الحاكمة.
قد تبدو الانتخابات الأمريكية مسرحًا لصراعات محتدمة وتصريحات متبادلة تصل حد الشتم السياسي العلني، كما رأينا في الحملات الأخيرة بين الجمهوري دونالد ترامب والديمقراطي جو بايدن. لكن هذه الضوضاء الإعلامية، في حقيقتها، لا تعني تغيرًا جوهريًا في اتجاهات السياسة الخارجية أو الأمنية أو الاقتصادية للولايات المتحدة، بل تعبّر عن اختلاف في أدوات تحقيق أهداف استراتيجية راسخة.
فالانتقادات المتبادلة بين المرشحين، وإن بدت شخصية، تُستخدم ضمنيًا لحشد التأييد الشعبي، لكنها لا تخرج عن الإطار العام للسياسة الأمريكية طويلة المدى. فعلى سبيل المثال، الانتقادات التي طالت إدارة ترامب بخصوص ملف إيران أو العلاقة مع الصين، لم تُفضِ إلى قطيعة استراتيجية في عهد بايدن، بل أعادت صياغة المقاربة مع الحفاظ على جوهر الأهداف ذاتها: احتواء إيران، وكبح الصعود الصيني، وضمان التفوق الأمريكي اقتصاديًا وعسكريًا.
ما يُعرف إعلاميًا بـ"الدولة العميقة" في الولايات المتحدة ليس شبكة خفية بقدر ما هو وصف لمجموعة المؤسسات التي تتولى رسم السياسات العليا وحراستها؛ كالبنتاغون، ووكالات الاستخبارات، والخزانة الفيدرالية، ومراكز الدراسات المتخصصة. هذه البنية المؤسساتية هي التي تضمن ألّا يتحول الرئيس إلى "زعيم فرد" كما يحدث في الأنظمة السلطوية، بل يبقى منصبه جزءًا من منظومة جماعية تتجاوز النزعة الشخصية وتضبط الأداء داخل أطر استراتيجية مدروسة.
وهذا ما يفسر قدرة الولايات المتحدة على امتصاص صدمات سياسية كبرى دون أن يختل توازنها الداخلي أو تفقد موقعها الدولي. الرئيس قد يُقال، يُنتقد، أو يُحاكم، لكن الدولة لا تهتز.
رغم التغيرات المتسارعة في موازين القوى، لا تزال الولايات المتحدة تعتمد على مزيج من الهيمنة الاقتصادية والعسكرية لضمان استمرار تفوقها. ومع إدراكها لصعود الصين كقوة اقتصادية عالمية، تتعامل واشنطن مع هذا التحدي بهدوء استراتيجي، لا برعونة المواجهة المباشرة، كما فعلت خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي.
في المقابل، تسير الصين على نهج يشبه إلى حد بعيد ما بنته أمريكا منذ منتصف القرن العشرين: تركيز على البنية التحتية، تطوير الصناعات التقنية، توسيع النفوذ التجاري، والابتعاد عن الانخراط في النزاعات العسكرية المباشرة. وهذا التوازي هو ما يجعل واشنطن تدرك أن منافستها الحقيقية لا تأتي من أعداء تقليديين، بل من خصوم استراتيجيين يمتلكون مشروعًا متماسكًا على المدى الطويل.
من دون مبالغة، يمكن القول إن الرئيس الأمريكي – مهما بلغ من تأثير إعلامي أو شعبية انتخابية – لا يشكل أكثر من أداة ضمن منظومة تخدم مشروعًا أكبر منه بكثير. لذلك، لا يُفاجأ المتابع بأن تُعاد صياغة خطابات "المواجهة" لتتناسب مع ضرورات كل مرحلة، دون أن تمس جوهر التوجهات الكبرى.
بهذا المعنى، تُعد السياسة الأمريكية مثالًا كلاسيكيًا على الدولة التي تتغيّر فيها الوجوه، بينما تبقى الاستراتيجيات والمصالح ثابتة، وموضوعة على مسار طويل الأمد، لا يستطيع فرد أو حزب بمفرده أن يحيد عنه كثيرًا.