عبدالرحمن الخضر يكتب لـ(اليوم الثامن):

الدروس المهدورة.. كيف أضاع اليمن فرصة بناء دولة وطنية بعد ثورة 1962؟

يظهر مشهد مدينة ثلاء التاريخية (محافظة عمران) تماسك البناء القبلي الكلاسيكي في شمال اليمن، مما يعكس عُمقَ التقاليد والهوية القبلية التي تميز المجتمعات الريفية. في الواقع، بقيت القرى والجبال الشمالية لفترة طويلة ضمن نفوذ شيوخها، فيما غابت الدولة المركزية عن بعض جوانب الإدارة المحلية. ولذا اضطرت الحكومات المتعاقبة إلى البحث عن سبل لكسب ولاء القبائل، حيث ذُكِر بأن “القبيلة… المكون الرئيسي للمجتمع اليمني.. ويرى باحثون أن هذا الوجود القوي لقبائل اليمن هو نتيجة لضعف مؤسسات الدولة، فهي عمليًا تقدم بديلاً عن غياب الحكومة في تأمين النظام وحل النزاعات داخل المجتمعات.

منذ إعلان الجمهورية العربية اليمنية (الشمال) إثر ثورة 26 سبتمبر 1962، لعبت القبائل دورًا مركزيًا في المشهد السياسي. فعلى الرغم من أن بعض مشايخ حاشد وبكيل دعمت الثورة ضد الإمامة، فقد ظلّ مفهوم الولاء للزعيم التقليدي قائمًا. وكما يوضح تحليل صنعاء، سرعان ما وجدت الحكومة الجديدة –التي فقدت الشرعية الدينية للإمامة– نفسها مضطرةً إلى اعتماد استراتيجيات جديدة لكسب ولاء القبائل. إلا أن هذا التكتيك لم ينجح دومًا. ففي مطلع السبعينيات، ضاقت المؤسسة العسكرية الخناق على هيمنة مشايخ القبائل على مؤسسات الدولة، فدخلت في ما عُرف بقرارات “التصحيح” عام 1971 للمطالبة بوقف المخصصات المالية للقبائل. ورغم ذلك، تبدّد هذا التحرك حين تحالف عدد من الضباط مع زعماء قبائل ضد حكومة عبد الرحمن الأرياني، فأُجبر الأخير على الاستقالة في 13 يونيو. عقب ذلك انتقل الحكم لمجلس عسكري بقيادة إبراهيم الحمدي، الذي حاول –وفق رؤيته الوطنية– تضييق نفوذ القبيلة لتعزيز سلطة الدولة المركزية. ولكن مؤسساته تبقى هشة: فقد اغتيل الحمدي عام 1977 قبل أن يحقق ما خطط له، مما مهد الطريق لصعود شخصيات جديدة محسوبة على الزعامات القبلية.

مضت الثورة اليمنية مبكرةً بأيدي مجموعة من الضباط والزعماء الحداثيين، إلا أن هؤلاء “قادة الثورة” واجهوا موجة إقصاء لاحقة. فمثلاً استهدف العسكر (في ما عرف بحركة التصحيح 1967) قادة السلال ولم يتمكنوا من توحيد صفوف الجمهوريين، مما فتح المجال أمام نزاع آخر حول السلطة. وبحلول أوائل السبعينيات تصاعد النفوذ القبلي على حساب الوطنيين: إذ شكّل مجلس الشورى آنذاك أغلبية من مقاعده (93 من 159) لأشخاص من العشائر الكبيرة. وعندما طالب ضباط التصحيح بوقف تمويل القبائل وحل مجالسها، أدت خلافات سياسية متراكمة إلى استقالة حكومة محسن العيني عام 1972، ثم استقالة الأرياني في 1974 تحت ضغط مشايخ القبائل والضباط.

تصاعدت في العقود التالية أسراب من الزعماء الجدد ذوي الخلفيات القبلية. فقد كان ثلاثة من أصل خمسة رؤساء لليمن الشمالي من قبائل حاشد الكبرى، في مقدمتهم صالح بن علي بن حسين الأحمر وأبناء أخيه علي عبدالله صالح، الذين نجحوا في احتواء قيادات حاشد وبكيل عبر دمجهم سياسياً وإدارياً. وبالمقابل، ضَعُفَ تأثير بعض الثوريين القدامى في صنع القرار. مثال ذلك، إبراهيم الحمدي نفسه –الذي كان ضابطًا ثوريًا إصلاحياً– حاول إنهاء الولاءات القبلية وتعزيز هيبة الدولة  ولكنه اغتيل في عام 1977. وما حدث بعده من تعاقب رؤساء ضعفاء على السلطة (الغشمي ثم صالح) يدل على أن رموز النفوذ القبلي نجحت تدريجيًا في السيطرة على مؤسسات الجمهورية، وغابت آمال بناء دولة مدنية حديثة على يد قادة الثورة الأوائل.

تباين بناء الدولة في شطري اليمن قبل الوحدة كان شديدًا. ففي الجنوب (عدن وما يليها) تأسست بعد انسحاب البريطانيين عام 1967 «الجمهورية الشعبية اليمنية» التي تحولت عام 1969 إلى نظام اشتراكي أحادي الحزب بقيادة الحزب الاشتراكي اليمني. عمد هذا النظام إلى تقنين الاشتراكية (أيديولوجيًا واقتصاديًا)، فوحد مركز الحكم وأنشأ مرافق دولة حديثة نسبيًا، بما في ذلك حملات تعليمية واسعة ومرافق صحية واجتماعية. أما في الشمال فقد كان المشروع قائمًا على تحالف معقد بين الدولة الجديدة وجمهرة القبائل وزعاماتها، فبدلًا من إقامة مؤسسات مدنية قوية، ظلت الأولوية للاستقرار عن طريق “إدماج” شيوخ القبائل في الحكم. بعبارة أخرى، حاول الجنوب بناء دولة مركزية متماسكة (مع كل قيود حزب واحد)، بينما ظل الشمال أشبه بنظام قبلية مهلهل بأطراف متعددة. ولم يكن هناك تلاقي عقائدي أو تنظيمي بين النظامين؛ فشمالٌ محافظ قبلي ومحمدي المذهب مقابل جنوبٍ ماركسي ليبرالي.

في 22 مايو 1990 وُحد البلدان تحت اسم «الجمهورية اليمنية» بتركيبة سياسية توافقية: عيّن علي عبدالله صالح رئيسًا للجمهورية، وعلي سالم البيض نائبًا له (من الجنوب الاشتراكي)، وعُقدت انتخابات برلمانية في 1993. إلا أن هذه الوحدة بين نظام قبلي شمالي ونظام حزبي جنوبي لم تكن إلا اتفاقًا شكليًا. سرعان ما انكسرت العلاقة: في نهاية 1993 عاد البيض إلى عدن مع حكومة ظل جنوبية، واشتد الخلاف حول توزيع الثروة والسلطة. وفي العام التالي أعلنت قيادة الجنوب (الحزب الاشتراكي) الانفصال المسلح، فاندلعت حرب أهلية من مايو حتى يوليو 1994. انتهت هذه الحرب بهزيمة قوات الجنوب وفرار معظم قياداته (وقد اعتُبر ذلك بمثابة انقلاب فاشل على الوحدة)، في حين عزز الشمال نفوذه القومي في البلد الموحد. وعليه، أنتجت مرحلة «الوحدة –الانقلاب» أزمة ثقة بين الشمال والجنوب، وبقي الجنوب مهمشًا ومتضررًا سياسيًا واجتماعيًا من مغبة الحرب.

تركت كل هذه التطورات إرثًا ثقيلًا على اليمن اليوم، سياسيًا واجتماعيًا. فبدلًا من نشوء دولة وطنية متماسكة، تعاظم التمزق الداخلي. فقد أشار تحليل حديث إلى أن «وحدة اليمن بين نظاميْن (قبلي شمالي – حزبي جنوبي) كانت فشلًا ذريعًا. ففي كل منعطف بعد 1990 اندلعت صراعات جديدة: حرب 1994، وحروب صعدة ضد الحوثيين (2004-2010)، وثورة 2011 وغيرها، وقد أشارت الدراسات إلى أن هذه الأحداث أدت إلى «صدامات كبرى بين فصائل الدولة والجيش والمجتمع». وفي النتيجة الحالية، تفتتت السلطة اليمنية إلى ما يشبه دويلات عدة: يسيطر الحوثيون على الشمال وقوات المجلس الانتقالي على جزء من الجنوب، فيما تقبع الحكومة المعترف بها دوليًا في مناطق محدودة بشرقي اليمن. على الصعيد الاجتماعي، استفحلت الولاءات القبلية والإقليمية، وأضعفت الحرب المؤسسات التعليمية والصحية والاقتصادية. كما تعرض اليمن – بفعل الصراعات الطويلة – لكارثة إنسانية عملاقة. بالإجمال، فإن فشل بناء دولة مدنية قوية بعد 1962، والنزاعات على السلطة التي تبعته، رسمت صورة لمستقبل باهت: دولة هشّة ومجتمع مُجزّأ، يَظهر فيها أثر الشيوخ والقبائل والولاءات الضيقة على حساب المشروع الجمهوري الوطني الشامل.