د. صبحي غندور يكتب:
عن دور مصر الذي لم يعد بعد ثورة يناير
حدثت "ثورة 25 يناير" في مصر بالعام 2011 بفعل حركة شبابية مصرية تضامنت معها قطاعات الشعب المصري كلّه، لكن دون استنادٍ إلى قوة سياسية منظّمة لهذا الحراك الشعبي، ممّا جعل الثورة والثوار دون مرجعية تحصد نتائج الثورة فيما بعد، وممّا أفسح المجال أيضاً لحركة "الأخوان المسلمين" لاحقاً أن تقتطف ثمار "ثورة يناير" دون أن تكون هي العامل الأهم فيها.
ولقد حاول البعض "التنظير" لثورة 25 يناير بأنّها كانت ثورةٌ أيضاً على ثورة 23 يوليو!!، وبأنّها كانت ثورة من أجل الديمقراطية ضدّ استبداد النظام السابق وفساده، وليست ثورةً أيضاً على سياسة التبعيّة والعلاقات مع إسرائيل، والتي قزّمت دور مصر الطليعي في عموم المنطقة، وأضعفت مصر نفسها بعد أن قيّدتها منذ نهاية حقبة سبعينات القرن الماضي بأغلال المعاهدات.
وقد تعدّدت التحليلات بشأن ما حدث في مصر بعد ذلك، واختلف الكثير من المصريين والعرب حول توصيف طبيعة انظمة الحكم فيها بعد " ثورة يناير"، ووصف البعض نظام حكم الرئيس محمد مرسي بأنّه "الجمهورية الثانية"، بعد "جمهورية العسكريين" التي بدأت مع "ثورة 23 يوليو" في العام 1952، وهو الوصف الخاطئ والخطير الذي يضع حقبة جمال عبد الناصر (1952-1970) في سلّةٍ واحدة مع حقبتيْ أنور السادات وحسني مبارك، رغم إدراك هذا البعض بأن الحقبة الناصرية قد تناقضت سياساتها الداخلية والخارجية مع كلّ ما جاء بعدها، وحتّى الآن!.
ربما كان يصّح القول بأنّ مصر عاشت في فترة حكم محمد مرسي، حقبة "الجمهورية الثالثة" التي تميزت بهيمنة "حركة الأخوان المسلمين" على الحكم، وبتعثر كامل في كيفية بناء مصر الداخل اقتصادياً واجتماعياً ودستورياً، وبعدم احداث تغييرات جذرية في السياسة الخارجية التي كان عليها نظام "الجمهورية الثانية"، أي نظام السادات – مبارك، وهو النظام الذي عاد من جديد للحكم في العام 2013 بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي.
وهاهي المنطقة العربية الآن تشهد صراعات عربية داخلية لحوالي عشر سنوات، في ظلّ غيابٍ متواصل لدور قيادي مصري، ولمشروعٍ عربيٍّ مشترك، ولإرادة عربية مشتركة، وبخضوع كبير لمحاور إقليمية ودولية لها عملياً الكلمة الفصل في مصير الأزمات العربية المشتعلة كلّها الآن.
وما جرى في بعض البلدان العربية من مواجهة للاستبداد الداخلي من خلال الاستعانة بالتدخّل الخارجي أو من خلال العنف المسلح المدعوم خارجياً، جلب ويجلب الويلات على البلدان التي حدث فيها ذلك، حيث تغلب حتماً أولويات مصالح القوى الخارجية على المصلحة الوطنية. وكان هذا التدخّل الخارجي، ودعمه للعنف المسلح، نذير الشرّ بالصراعاتٍ والحروبٍ الأهلية التي حدثت، وبتسهيل الاستيلاءٍ الأجنبيٍّ على الإرادات والثروات الوطنية، وبالعمل لنزع الهويّة الثقافية العربية والحضارية الخاصّة في هذه البلدان.
كذلك كان مهمّاً استيعابُ دروس تجارب شعوب العالم كلّه، بأنّ الفهم الصحيح لمعنى "الحرّية" هو في التلازم المطلوب دائماً بين "حرّية المواطن" و"حرّية الوطن"، وبأنّ إسقاط أيٍّ منهما يُسقط الآخر حتماً.
فنعم هناك حاجة قصوى لإحداث تغيير في واقع عربي قائم معظمه على الاستبداد والفساد والتبعية للخارج، لكن الأسئلة المشروعة عند حدوث أي حراك شعبي من اجل التغيير هي: من يقوم بالتغيير، أي من هي القيادة؟، وكيف، أي ماهو الأسلوب؟، وبدعمٍ ممّن، ولصالح أيِّ برنامج، أي ماهي الأهداف أو الرؤى البديلة للواقع المرفوض؟، وماهيّة آثاره على الوحدات الوطنية الشعبية وعلى هُويّة واستقلال ووحدة الوطن نفسه؟!.
ونعم هناك مخاوف حتماً على الحراك الشعبي العربي أينما وُجِد، وذلك من منطلق الحرص عليه، وعلى ضرورة استمراره في الطريق الصحيح، والذي يجب أن تكون خواتيمه هي أوطان واحدة وموحّدة في كياناتها وشعوبها، وحكومات منتخبة وعادلة ونظيفة، ومجتمعات قائمة على التعدّدية الطائفية والإثنية والفكرية والسياسية والإعلامية، يحكمها دستور يساوي بين المواطنين ويضمن الفصل بين السلطات ويؤكّد مفهوم "المواطنة". هذا كلّه في الإطار الداخلي، الذي لا يمكن الاكتفاء به كعنوانٍ للتغيير العربي المنشود. فالديمقراطية لا يمكن فصلها عربياً عن مسألتيْ التحرّر الوطني والهويّة العربية. ولعلّ في التجارب "الديمقراطية"، التي حصلت خلال العقد الأول من هذا القرن في لبنان والعراق وفلسطين، ما يؤكّد هذه الخلاصة عن أهمّية التلازم المطلوب بين الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية.
فالمشكلة الأبرز لدى دعاة (الديمقراطية فقط) في البلدان العربية أنّهم يفصلون المسألة الديمقراطية عن قضيتيْ التحرّر الوطني والهويّة العربية، وبهذا تصبح الدعوة للديمقراطية (فقط) عذراً من أجل التدخّل الأجنبي واستباحة الدول والهيمنة على مقدّراتها، إن لم نقل أيضاً تفتيت وحدة كيانها ومجتمعها.
كذلك الأمر في مسألة الهويّة العربية لهذه الأوطان حيث كان طرح الديمقراطية (وما يزال الآن كذلك) منعزلاً عن الهويّة العربية، بل هو أحياناً في المواجهة معها سعياً لاستبدالها ب"هويّات" طائفية أو إثنية ممّا لا يُضعف الهوية العربية فحسب، بل ويُضعف أيضاً الهويّة الوطنية الواحدة. فصحيحٌ أنّ الديمقراطية هي حاجةٌ ملحّة وضرورية لمعالجة الكثير من الأمراض الكامنة في الجسم العربي، لكنّها (أي الديقراطية) ليست مسألةً منعزلةً عمّا تعيشه أيضاً البلاد العربية من قضايا أخرى، ترتبط بالتحرّر الوطني وبالعدالة الاجتماعية وبالوحدة الوطنية وبالهويّة العربية.
إنّ التعامل مع المسألة الديمقراطية في المنطقة العربية لا ينفصل أيضاً عن تحدّيات الوجود الإسرائيلي، وعن مشاريع القوى الإقليمية والدولية الكبرى، وما لها كلّها من أطماع أمنية وسياسية واقتصادية، يستلزم تحقيقها إشعال الصراعات داخل وبين بلدان الأمّة العربية.
هناك إذن مزيجٌ مركّب من الأزمات ممّا يحتاج إلى مزيجٍ أيضاً من الحلول. فبناء آليات ديمقراطية واعتماد صناديق انتخابات لا يحقّقان وحدهما فقط "الشرعية الشعبية" والعدل السياسي والاجتماعي بين الناس، أو يصونان وحدة المجتمعات، أو يمنعان التدخّل الأجنبي، أو يحرّران الأراضي المحتلّة .. وهي كلّها مسائل معنيّةٌ بها "الأمة العربية" التي ما زالت تقوم على أوطانٌ عربية مختلفة ومتصارعة مع نفسها في كثير من الأحيان..
إنّ الاختلال بتوازن مصر وبدورها يعني اختلالاً في توازن الأمّة العربية كلّها، وهذا ما حصل فعلاً بعد وفاة جمال عبد الناصر عام 1970، وبعد معاهدة "كامب ديفيد" في العام 1979.
الأمّة العربية لا تتحدّث الآن عن حلم التوحّد والتكامل بين أقطارها، كما كان الأمر في فترة ناصر، بل هي تعيش الآن كابوس خطر الصراعات في الأوطان على أسس إثنية وطائفية ومذهبية.
إنّ القدر لم يسمح لجمال عبد الناصر أن يعيش طويلاً وأن يحصد ثمرة إعادة بنائه للقوات المسلّحة المصرية وللمجتمع المصري عموماً عقب حرب العام 1967، إضافةً إلى سياسة التضامن العربي التي أرسى عبد الناصر في قمّة الخرطوم عام 1967 قواعدها، حيث دخلت المنطقة العربية كلّها آنذاك في مرحلة جديدة من التضامن العربي الجاد والفعّال لأجل تحرير الأراضي العربية المحتلة، ورفض تحقيق الشروط الإسرائيلية للسلام مع العرب.
وكانت لحظات التحوّل التاريخي في دور مصر بدأت حينما استثمر أنور السادات انتصار حرب 1973 ليقبل بما لم يقبله ناصر بعد هزيمة 1967، أي الصلح والاعتراف والمفاوضات مع إسرائيل، بشكلٍ منفرد ومستقل عن باقي الجبهات العربية وعن جوهر الصراع: القضية الفلسطينية، بل وبالتخلّي عن مسؤولية مصر عن قطاع غزّة. وارتضى السادات أن يكون الانسحاب من سيناء بشروط هو الثمن لتحويل مجرى الدور المصري في المنطقة العربية (والعالم الثالث) من موقع القيادة إلى حال "السلامة عن طريق الانعزال"، وهي الجملة التي كان عبد الناصر يردّد، في معظم خطبه بعد حرب 1967، رفضه لها.
وهاهي الأمَّة العربية الآن تعاني من انعدام التضامن العربي ومن الانقسامات والصراعات، ومن هشاشة البناء الداخلي، ممّا سهّل ويسهّل الهيمنة الخارجية على بعض أوطانها، ودفع بالوضع العربي كلّه نحو مزيدٍ من التشرذم والتخلّف والسيطرة الأجنبية، وممّا همّش أيضاً الصراع العربي/الصهيوني والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
فليست هي مصر الآن التي عرفها العرب في منتصف القرن العشرين تقود نفسها وجوارها العربي والإفريقي والآسيوي في معارك التحرّر الوطني من قوى الاستعمار والهيمنة الأجنبية.
ليست هي مصر الآن التي كان أزهرها الشريف ينشر تعاليم ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف في كلّ أنحاء العالم بعيداً عن التطرّف والتعصّب وجهل الفتاوى.
ليست هي مصر الآن التي كانت في مقدّمة دول المنطقة والرائدة لقضاياها القومية والوطنية، والحاضنة لصيغ ومؤسسات العمل العربي المشترك، والفاعلة الأولى في قرارات جامعة الدول العربية.
الأمَّة العربية تحصد الآن نتائج سياسات حكّامٍ فاسدين في ظل اشتعال دور الطائفيين والمذهبيين والمتطرّفين الإرهابيين العاملين على تقطيع أوصال كلّ بلد عربي لصالح مشاريع أجنبية وصهيونية.
فلا انفصال أبداً بين ما هو قائم من صراعات أهلية عربية، وما تعيشه الأمَّة العربية من انقسامات طائفية وإثنية، وتفكّك في وحدة الكيانات، وبين ما هو حاصل من تخلٍّ عن مسؤوليات قومية ووطنية تجاه الصراع العربي/الصهيوني، ومن تسهيل لمزيدٍ من المراهنة على الدور الأجنبي.