عمر علي البدوي يكتب:
المصالحة الخليجية هل حققت غايتها؟
بعد أن أصبحت الأزمة القطرية من الماضي الذي طُوي مطلع هذا العام في قمة العلا، باختيار الرباعي العربي جانب حماية المصالح الجماعية والاستراتيجية، وطيّ مرحلة الخلاف، واختبار النوايا والإرادات بطريقة مختلفة، على أن ينتهي هذا الخيار إلى تسوية مرضية ومربحة وقليلة التكاليف.
حتى في ظل القيم التي يؤمن بها أطراف الخلاف، والتي تبدو للوهلة الأولى متضادة تماما، بل متناقضة، فإن وقف نزيف الصدام المؤذي بين الدول الجارة، وتجربة طريق أخرى لإرساء شكل من التواصل والتجاور، يكون مفيدا للجميع، أصبح ملحا ولازما.
تتفاوت سرعة الاستجابة في تفاصيل المصالحة لكل دولة بعد أن تُركت القضايا العالقة والملفات المتعثرة للمباحثات الثنائية بين الدول، وتبدو حالة الإعلام كاشفة عن درجة التقارب أو التضارب بينها.
الأزمة في ليبيا، وهي تعيش أفضل فرص حلها وإنهائها، تعطي نموذجا لانعكاس المصالحة الخليجية على حلحلة إشكالاتها، بعد أن استقطبت الأزمة أطرافا خليجية متضاربة
وفي ظل شحّ المعلومات والتفاصيل، يلجأ المراقبون إلى قراءة الطرح الإعلامي، والوقوع في فخ التكهنات والتحليل الشخصي، وهو ما يؤول بهم بالضرورة إلى الخطأ والوهم وتفضيل ميولهم وخياراتهم الشخصية.
لا يزال الاشتباك الإعلامي قائما، وبدرجة أكبر بين الإمارات والبحرين من جهة، وقطر من جهة أخرى، في ظل التبعات النفسية التي أورثتها الأزمة خلال الثلاث سنوات ونصف السنة من عمرها.
قبِلت بعض عواصم الرباعي العربي “المصالحة” على مضض، أرادت مقاطعة وعزلة أبدية للدوحة، لكن المنطق والمجريات التي وقعت في الفترة الماضية، لا يسمحان بهذا الخيار الصفري، ولا بد من إعادة الاعتبار إلى الرؤى والبنى الاستراتيجية التي تحتم تجاوز بعض الخلافات وتجرّع بعض المرارات.
لا يزال الإعلام، وهو أحد أسباب الأزمة، يمارس بعض أدواره السلبية، وسواء اختارت الدوحة أن تخفّف تدريجيا من محتوى وأطروحات آلتها الإعلامية المباشرة وغير المباشرة لتجاوز حرج الارتهان لأوامر المموّل وتحولات رغباته، أو الاحتفاظ بأوراق اللعب والتصعيد بيدها، فإن نظرة سريعة على أدائه، لا تؤشر من قريب أو بعيد إلى نية في تكريس حالة المصالحة وتجاوز الخلاف ودعم المسؤوليات الاستراتيجية في هذه المرحلة الحرجة التي تعصف بالمنطقة.
لاقت المصالحة ترحيب الحكومة اليمنية، وأعربت عن أملها بأن تنعكس إيجابا على دعم الشعب اليمني وحكومته في مواجهة جماعة الحوثي المدعومة من إيران
في ما يخصّ جماعة الإخوان، وهي إحدى نقاط الخلاف مع قطر، فإن واقع الجماعة لم يعد مريحا ولا مشجعا لمواصلة دعمها وتبنّيها والرهان عليها من قبل الدوحة، وكانت عرضت أكثر من مرة، ورقة التخلّي عنهم خلال المفاوضات السرّية عام 2019، وتعاني الجماعة الآن من تراجع لدورها، نتيجة شلل فكري وعجز عن إعادة إنتاج نفسها وانفصال حادّ مع قواعدها الشعبية وضمور جماهيريتها، فضلا عن ملاحقتها قانونيا في دول الملاذ الأوروبي، ما جعل مساعي تمويلها ودعمها مصدر صداع.
كان من المرجح أن تنعكس المصالحة، وتنسحب على ملفات أخرى، مثل تبريد الخلاف مع تركيا، واستثمار المناخ الإيجابي في الخليج، بعد أن اصطفت أنقرة أيام الأزمة مع الدوحة، وتورطت في الخلاف بصورة رئيسية، واستمر التصعيد إلى مستويات عالية، ثم تفاعلت تركيا مع المصالحة ورحبت بها، واقترحت أن تطور علاقاتها مع الخليج ورفع العوائق من طريقها، لكنه طريق لا يزال طويلا وشاقا وزاخرا بالشكوك والتردد.
وكانت الدوحة قد قدمت عروضا للحوار، مع إيران وتركيا ولعب دور “المسهّل” في هذا الحوار، لتجنيب المنطقة مخاطر الانزلاق في الصدامات الحادة.
التركيز يقع هذه الأيام على الأزمة في اليمن، وقد وضعت واشنطن ثقلها لدعم حل سياسي يضمن إنهاء الحرب، وأيّد التحالف العربي هذا التوجه وشجع على المواصلة فيه، إذا كان سيضع جماعة الحوثي تحت الضوء الكاشف، ويقطع الطريق على تلاعبها بالعمل السياسي لتغطية سوءاتها العسكرية وتوجهاتها الاستئصالية.
وتعطي زيارة المبعوث الأممي مارتن غريفيث إلى طهران، ورفع جماعة الحوثي من قائمة الإرهاب، إشارات متضادة، بين وضع الدور الإيراني على الطاولة والاعتراف بتأثيره في الأزمة، أو مجرد التقرب إلى طهران على حساب الملف اليمني ومصالح الخليج، لتشجيع إيران على إعادة الالتزام بالاتفاق النووي المجهض.
هل ستنعكس المصالحة على الموقف من الأزمة اليمنية، وهل يمكن أن يعاد استثمار وتوجيه التدخل القطري، بعد أن تحوّر وتحوّل إلى عرقلة عمل التحالف والتحريض عليه وتشتيت جهده وانتباهه إلى قضايا هامشية وخلافية.
لاقت المصالحة ترحيب الحكومة اليمنية، وأعربت عن أملها بأن تنعكس إيجابا على دعم الشعب اليمني وحكومته في مواجهة جماعة الحوثي المدعومة من إيران.
يتزامن هذا مع تصريح المبعوث الأميركي الخاص لليمن تيموثي ليندركينغ، بأن الولايات المتحدة تستخدم “بشكل نشط” قنوات خلفية للتواصل مع جماعة الحوثي اليمنية، وهو ما فهم أنه قد يكون إشارة إلى دولة خليجية لها صلات بالجماعة وتحظى بثقتها.
تتفاوت سرعة الاستجابة في تفاصيل المصالحة لكل دولة بعد أن تُركت القضايا العالقة والملفات المتعثرة للمباحثات الثنائية بين الدول، وتبدو حالة الإعلام كاشفة عن درجة التقارب أو التضارب بينها
تعطي الأزمة في ليبيا، وهي تعيش أفضل فرص حلها وإنهائها، نموذجا لانعكاس المصالحة الخليجية على حلحلة إشكالاتها، بعد أن استقطبت الأزمة أطرافا خليجية متضاربة، قطر إلى صالح تركيا والإمارات إلى صالح مصر، لكن التقارب بين القاهرة وأنقرة بضغط دولي ساعد في فك الاشتباك وتشجيع الجهود الأممية المستمرة للتوصل إلى أفضل اتفاق ممكن، وتشكيل حكومة جديدة في ليبيا.
الآن هل يمكن أن تخفف المصالحة الخليجية من شدة الاستقطاب في الحالة اليمنية، تبعا لتلوينات خليجية بالأساس، وترك الأمر للرياض، وهي الأكثر دراية وإلماما وقبولا لدى المكونات اليمنية، للخروج بالبلاد من مأزقها الحاد، وقد توسعت آثاره السلبية لتشمل كل الجيران، وعلى صبّ التركيز والاهتمام نحو تشجيع المساعي السياسية والدبلوماسية لإنجاز حل سياسي واقعي وحقيقي، وقطع الطريق على كل التدخلات الإقليمية التي لا تريد باليمن خيرا، وتستثمر في وجع أهله ومآسيهم وجعلهم مجرد بيادق وأوراق في لعبة نفوذها المجنونة، والتخفيف من التفخيخ الإعلامي الذي يشحن الأزمة ويلهب أطرافها ويشوش على كل الجهود النبيلة المبذولة لإنقاذ البلاد.
يُرجى لهذا الأمل أن يتحقق، وللمصالحة أن تستمرّ في نتائجها المثمرة، وإلا فعود على بدء.