عمر علي البدوي يكتب:
ما اقترفته التقارير الأميركية بالمنطقة العربية
لا يمكن الثقة بمضمون تقارير المخابرات الأميركية في تقييم الأحداث الخارجية، ولا البناء عليها في اتخاذ قرارات ومواقف، فهي ليست جهة ادعاء ولا قضاء، ولا تراعي ما يقتضيه الموقف من عدل ونزاهة، كما أنها مخولة ومعنية في الأساس بخدمة أهداف وأجندة الحكومة الأميركية.
وتبعا لهذا، صدر تقريرها بشأن قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي مليئا بالعيوب، كان نصه هشّا وزاخرا بالعبارات الظنية والتخمينية، كلمات من قبيل (نفترض، نشعر، نعتقد، نتوقع، نظن، من الممكن، قد يكون، ربما) كانت تشكل مفاتيح الفقرات المبعثرة في جسم التقرير المهلهل.
الآن، هل ذلك كافٍ للإدارة الأميركية لاتخاذ مواقف وقرارات تجاه السعودية، وبناء على استنتاجات هذا التقرير، رغم تواضعه منطقيا وإجرائيا، هذا محتمل.
جوقة الرئيس الأميركي جو بايدن تريد أن تنال من تصلّب الرياض تجاه بعض الملفات التي تريد واشنطن تمريرها، وعلى رأسها ملف إيران النووي، الذي وعد بايدن بحله بالعودة إلى الاتفاق النووي، والانتهاء من صداع طهران، وسيكون تقييد السعودية من أول ما تقدمه الإدارة الديمقراطية اليائسة إلى الصفقة المستعادة.
لكنها بكل الأحوال ستكون “مقاربة حذرة من واشنطن لتجنّب أي شرخ دبلوماسي مع الرياض”.
يدعم ذلك تصريح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وقوله “لا نريد ‘تمزيق’ علاقات الولايات المتحدة والسعودية، لكن تطويرها”.
كريستين ديوان، من معهد دول الخليج العربية في واشنطن، قالت إن “فريق بايدن للسياسة الخارجية يتألف من خبراء متمرسين، وليسوا ساذجين لدرجة الاعتقاد بأنه يمكنهم تحقيق أهدافهم في الشرق الأوسط دون التعامل مع الدولة السعودية، التي لا تزال ممسكة بزمام النفط والأمن في الخليج حتى ولو بطريقة أقل شمولية”.
وبالعودة إلى أثر وعاقبة التقارير الأميركية المسيّسة، والتي تشتم منها رائحة الاستثمار غير الأخلاقي لتمرير الأجندة المشبوهة، لنتذكر ما فعلته التقارير الأميركية في المنطقة العربية، وأشهرها ما حلّ بالعراق قبل قرابة عقدين، عندما استخدمت إدارة بوش الابن تقريرا استخباراتيا مفبركا لتبرير حرب ظالمة على الشعب العراقي، مازالت آثارها الكارثية قائمة حتى الآن.
وقد اعترفت النخب الحاكمة بتضليل الرأي العام، وتعمّد الكذب، والخضوع لسردية المحافظين المختلقة، لكنها لم تتجشّم تحمل مسؤولية وتبعات هذا القرار الكارثي، الذي جرّ على المنطقة سنوات من السوداوية والدمار.
بل حتى أغلب القضايا التي ارتكبت بحق الشعب العراقي، وأظهر فيها عناصر الجيش الأميركي مستوى وقحا من امتهان الإنسان والاستخفاف بحياته وكرامته، لم تحرّك لدى أروقة النظام السياسي والاجتماعي الغربي أي إحساس بالندم، أو عزم على المحاسبة. بينما تتعامل الرياض بهدوء مع كل هذه الجلبة، ودويّ التحليلات التي تريد إفساد شراكة مهمّة، استفاد منها البلدان طويلا.
وتبعا للمنطق، لا يصحّ التفريط بالعلاقة مع واشنطن، بل ينبغي العمل والمساعدة على إنجاحها ورفع العراقيل التي تعيق نموها وتطورها، مع الحفاظ على الثوابت السيادية والإبقاء على هوية واستقلالية ومصالح البلاد العربية، وبلورة شكل للمستقبل، يكون أقل اعتمادا على أحادية الحلفاء، وأكثر انفصالا عن خياراتهم وتحولاتهم. فضلا عن ضرورة الاستثمار في القدرات الجيوسياسية والذاتية، وبناء مشروع صناعي يحقق الحد الأدنى من الاكتفاء في الحاجات الأولية لضمان الأمن بشكله الواسع على أقل تقدير.
وفي المقابل طوت الرياض ملف القضية، بصدور الأحكام التي حصلت على تأييد عائلة المواطن السعودي خاشقجي، ونفى الأمير محمد بن سلمان ضلوعه بأي شكل من الأشكال في العملية، لكنه قال إنه يتحمل المسؤولية المعنوية لأن الجريمة حدثت وهو في موقع السلطة، وحثّ كل من يزعم وجود أدلة تثبت ضلوعه أو اتصاله بالمسألة، تقديمها للعلن.
أفسد التقرير الأميركي حفلة كان يستعد لها خصوم السعودية، بعد أن نالتهم خيبة أمل كبيرة، نتيجة الضعف الذي ظهر عليه، وخلوه من أي أدلة أو مضمون يغذي دعاياتهم السوداء والسلبية المرتبطة بأدوار السعودية الأخيرة، وحجم من فعالية طموحاتهم التوسعية، لاسيما في أنقرة، التي قادت قبل عامين، آلة ضخمة من الإساءات الممنهجة والضخّ السلبي ضد الرياض، باءت في نهاية المطاف بالفشل الكامل.
ببساطة، المصالح العليا المشتركة والعلاقات الاستراتيجية لن تكون في خطر، وبمجرد أن يخمد هذا الغبار والهياج ستعود الأمور إلى نصابها، في هذه الأثناء تجري مناورات تمرين “التنين” المشترك بين “القوات الجوية السعودية” والقوات الجوية الأميركية، في المنطقة الغربية بالمملكة، تجسيدا عمليا لاستمرار التعاون المشترك بين القوتين الجويتين للحفاظ على أمن واستقرار المنطقة.
مشروع الأمير محمد بن سلمان الإصلاحي ضرورة وليس خيارا. يجب تحصين هذا المشروع بالكثير من الحصافة والشجاعة، ووقف كل ما يشوّش عليه، لا يمكن التراجع إلى الخلف مطلقا، ينبغي التركيز على الخطوات النوعية التي حازت عليها السعودية مؤخرا، وإلقاء كل المنغصات في الخلف وعدم الانشغال بها.
ربما كان على بايدن وهو يقلّب أوراق التقرير ويقرأ ما بين السطور، أن يتعامل مع العبء الذي خلّفه إرث الرئيس الأسبق باراك أوباما ومع مشروعه المجهض في المنطقة، وتحقيق معادلة تكون فيها إيران دولة معترفا بدورها التوسعي، وإرضاء جشعها بلقمة عربية كبيرة، مقابل أن تقلّص من طموحها في مضايقة إسرائيل، أو إزعاج الانسحاب التدريجي لواشنطن من المنطقة.
لكن استرضاء إيران، على حساب الحلفاء، ستكون عواقبه وخيمة على الولايات المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط، فضلا عن العالم كله.