عدلي صادق يكتب:

تداعيات إقصاء القدوة على المشهد الفلسطيني برمته

تتوالى ردود الفعل الفلسطينية على قرار رئيس السلطة محمود عباس، فصل عضو اللجنة المركزية المنتخب ناصر القدوة من عضوية اللجنة والحركة، دون أي مسوّغ نظامي. ونشأ شبه إجماع وطني على إدانة هذا الإقصاء الذي يعكس الحال المزرية التي وصلت إليها حركة فتح، حتى لم تعد تحتمل اجتهادا لرجل من قيادتها، يرى أن أحوال هذه الحركة لم تعد تحتمل الصمت والاستنكاف عن المبادرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل خوض الانتخابات التشريعية. فلم يكن القدوة يجانب الصواب عندما دعا إلى عملية إصلاح ونهوض عاجلين في حركة فتح، ووقف ممارسات الإقصاء والتفرّد واختزال الحركة الكبيرة في شخص رجل واحد، لم يُسجّل أي نجاح، بل على العكس فشل في كل مقارباته، وكلما توغل في الفشل، كان يحرص على إحكام قبضته على السلطة، وتضييق حلقة الحاشية، وإصدار مراسيم بقرارات ذات طابع غير دستوري.

وبدا أن الصامتين على تصرفات عباس من أعضاء اللجنة المركزية والكادر يريدون عبور هذه المرحلة، لكي يبقوا على المنصة، ريثما تنتهي مرحلة عباس الذي يزحف إلى سن التسعين. لكن التدبير الأخير لإقصاء القدوة كان محرجا لهم وكاشفا، ما يرجح أن تبدأ بسببه مرحلة من التصدع داخل فتح، قبل أن يحين موعد الانتخابات العامة في الثاني والعشرين من مايو المقبل. وهذا الذي جعل عباس ميالا إلى التأجيل الذي لا يستطيع اتخاذ قرار بشأنه قبل التفاهم مع حماس. وأغلب الظن أن لقاء القاهرة الفصائلي المزمع، سيناقش مسألة التأجيل وهي موصولة بمواقف إقليمية ودولية، لا بد أن تُرجى من عواصمها الموافقة على هذا الخيار.

رئيس السلطة لم يعد قادرا على مواجهة الضغوط الدولية والإقليمية لإجراء الانتخابات وتجديد التفويض الشعبي للقائمين على النظام السياسي. وستكون ذريعته، في محاولة الحصول على التأجيل، أن حركة فتح ليست جاهزة. وفي هذه الذريعة، هو يعتمد على حرص الدول الإقليمية في المشرق العربي، على إعادة بناء الطيف الوطني الفلسطيني نقيض الإسلامي الذي لا يزال موجودا في المشهد الفلسطيني بقوة، ويقف حجر عثرة في وجه استراتيجيات الإقليم وتوجهاته، لاسيما بعد أن أصبح تواجد الإسلاميين محدودا ومحاصرا، بحكم عجزهم عن صياغة خطاب سياسي يلائم المرحلة، ولو في الحد الأدنى، ناهيك عن كون حضورهم في غزة، بخطابهم الراهن، يُعدّ سببا في استمرار محنة غزة ذات الانعكاسات السلبية الكثيرة والمتنوعة على الإقليم.

كانت مشكلة القدوة، التي رآها عباس جد خطيرة، أن الرجل يمكن أن يستفيد من رمزية ياسر عرفات. فناصر، ابن شقيقة الزعيم الفلسطيني، هو أكثر أعضاء لجنة عباس المركزية، إلماما بالسياسة على المستويين الداخلي والخارجي، وسيكون توصيفه لأمراض حركة فتح في هذه المرحلة، شهادة شاهد من أهلها، وعندما يؤيّد أطروحاته قطاع معتبر من الكادر، فإن المشكلة ستكون أكبر. وللأسف ظل عباس، المعروف بعناده وعدم قابليته بأن يراجع سياساته وأثرها السلبي على حركة فتح والنظام الفلسطيني، مصمّما على إقصاء كل ذي اجتهاد. فهو لا يستمع إلا لنفسه ولا يرعوي.

وفي الحقيقة، يعتمد عباس على فلسفة خاطئة توافرت كل البراهين على عقمها، ملخصها أو جوهرها، هو الاستمرار في تطيير رسالته إلى الجانب الإسرائيلي بأنه سيظل منحازا للتسوية حتى وهي غائبة، كابحا لكل الأطروحات التي تدعو إلى إنهاض الوضع الفلسطيني والعودة إلى خطاب التمسك بثوابت العملية السلمية ومرجعياتها. وفي هذا الخيار، ظل يعتقد أن إسرائيل والأوروبيين والأميركيين، سوف يكافئونه بالدعم السياسي. لكن هؤلاء جميعا، في واقع الأمر، لا يطمحون إلى تسوية مع دكتاتور معزول، لأن هكذا تسوية تكون فاشلة على المستوى الاستراتيجي وفي المدى المنظور. فاحتياجهم الأساس لقيادة فلسطينية تستطيع إقناع شعبها بفوائد العملية السلمية، وهذا شرط لن يتأتى لعباس ـ ولا لهم ـ من خلال عملية إقصاء متنامية، تزيد من حجم المعارضة والأعداء. فالمسألة برمتها منظورة في الإقليم والعالم، من زاوية المعطيات الاجتماعية وحال الديمقراطية المتوازية مع التهيؤ لعملية سلمية.

في هذا الخضم، بدأت في المشهد الفلسطيني الانتقادات لحركة حماس، التي تماشت مع إجراءات عباس للتحكم في مسار الانتخابات العامة مقابل منحها هوامش مرضية لها بعد إعلان النتائج. وغنيٌّ عن القول، إن علاقات عباس التاريخية مع قيادة الحكم في قطر جعلت الدوحة نقطة التقاء عباس وحماس، لاسيما عندما أضيف إلى هذا المُعطى موضوع محمد دحلان وتنامي التيار الإصلاحي في حركة فتح ذي العلاقات الوطيدة مع قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة. فدحلان، في ناظر الدوحة، هو أحد رموز التصدي لحكم الحزبيين “الإخوان” في المنطقة، وبسبب خفة التقديرات القطرية حدثت مبالغة كبيرة على هذا الصعيد، وكأن دحلان عندما يغيب عن المشهد الفلسطيني والإقليم، ستنفتح الطرق للحكم الإخواني أو كأن مثل هذا الحكم، تاليا، سيكون مفيدا على صعيد السلام الاجتماعي في أي بلد.

تجربة غزة نفسها، تؤكد موضوعيا، على أن هذا التقدير خاطئ جدا. ومن المفارقات، أن الجغرافيا نفسها، أي جغرافيا غزة، قد ألقت بثقلها على حماس فيها، وجعلتها طرفا ضالعا في تفاهمات رعاها الجانب المصري، جوهرها الانزياح إلى السياسة وتقبّل فكرة التسوية، ودحض منطق الاستفراد بالحكم، والاستفادة من تصفير المشكلات المعيشية للسكان، مقابل استمرار الحضور الحزبي لحماس في المشهد الفلسطيني. وهذه نقطة التقاء واقعية، غير متفق عليها، بين القاهرة ورام الله والدوحة. لكن معضلة الأخيرتين، هي تنامي التيار الإصلاحي في حركة فتح، وقد أصبح يمثل كتلة انتخابية، إذ يستطيع المنتسبون إلى التيار، وحدهم ودون إضافة المتعاطفين؛ وأهالي المنتسبين، وعددهم بعشرات الألوف، أن يؤمنوا أكثر من اثني عشر مقعدا، ويُضاف إليهم عشرات ألوف أخرى تستغرق أكثر من ثلث حجم كتلة التصويت في غزة، التي تُقدر بنحو 800 ألف صوت. وعلى الرغم من هذه المؤشرات المشجعة بالنسبة إلى تيار الإصلاح في حركة فتح، فإن هذا التيار لا يزال يركز على تقديم المساعدات لغزة، وآخر مآثره إرسال 40 ألف لقاح ضد كورونا قدمتها دولة الإمارات إلى المنطقة البائسة التي يتفشى فيها الوباء. وعندما تُعقد المقارنات، يتبدى فشل إدارة عباس في جلب اللقاحات من الدوحة أو سواها، فاضحا.

والأنكى ـ وإن كان الأطرف ـ أن سلطة عباس عندما حصلت على ألفي لقاح للضفة، لم يتورع المتنفذون من فريق عباس، عن توزيع اللقاحات على بعضهم البعض، في عملية فساد سجلتها منظمات الشفافية وحقوق الإنسان. وكان ذلك السلوك يرمز إلى تردي أحوال فتح والسلطة، مقابل قوى وأسماء واعدة تطرح خطابا إصلاحيا. وجاء التدبير الفج، بفصل القدوة من حركة فتح واللجنة المركزية، لكي يزيد موقف عباس ضعفا، ويفتح الطريق للتغيير، وهذا الذي جعل عباس يحاول الآن، دون أن يُصرّح، التملّص من الاستحقاق الانتخابي، تحت عنوان التأجيل.

بقي القول، إن العيون الآن، تراقب تصرفات حماس حيال استنكاف عباس عن تنفيذ أي من التفاهمات التي توصلت إليها الفصائل في القاهرة. فقد صمتت على عملية تشكيل محكمة الانتخابات من عناصر محسوبة على عباس، دون أن يكون واحد منها محسوبا على حماس. وصمتت على الشرط غير الدستوري لمن يرغبون في الترشح، وهو أن يقدم المترشح استقالته وأن تُقبل الاستقالة، بمعنى أن تتحكم إدارة عباس في خارطة القوائم. فإن مضت حماس في هذا الصمت الذي يلامس التواطؤ، ستخسر كثيرا، وسينحصر رهانها على الناخبين الناقمين في الضفة الذين سيأخذ منهم ناصر القدوة وغيره، وذلك سبب إضافي يجعل عباس متفائلا بطواعية حماس له، عندما يطرح خيار التأجيل.

أما بالنسبة إلى القدوة، فقد أصبح الآن طليقا ويحظى بالتعاطف، وهنا يكمن عنصر الرعونة في قرار إقصائه.