إبراهيم أبو عواد يكتب لـ(اليوم الثامن):
التاريخ والجغرافيا في التفاعل الرمزي الاجتماعي
1
يعتمد التجانسُ في العلاقات الاجتماعية على التوازن بين الجوهر والعَرَض في حياة الأفراد ، وهذا التوازنُ يُحدِّد الأولويات ، ويُرتِّب القيمَ الإنسانية وَفْقَ أهميتها ، ويُميِّز بين الأُسُس الفكرية الدائمة والعناصر الحياتية المُؤقَّتة . وامتلاكُ القُدرة على التمييز بين الدائم والمُؤقَّت يُعتبَر اللبنةَ الأُولَى في منهجية العلوم الاجتماعية ، التي تستمد شرعيتها وفلسفتها من قُدرتها على تفسير دور الأفراد في حركة التاريخ ، وتحليلِ دور التاريخ في تشكيل وعي المجتمع . والفرقُ بين الدائم والمُؤقَّت في البُنى الاجتماعية ، يُشبِه الفرقَ بين جَذر الشجرة الراسخ وأوراقها المُتساقطة في الخريف . وبما أن الحياة عبارة عن سباق مسافات طويلة ، فلا بُد من فحص العناصر وتمييزها وغَرْبلتها من أجل معرفة القادرين على الوصول إلى خط النهاية ، والتعويل عَلَيهم في بناء المنظومة الاجتماعية ، لأنهم وَحْدَهم يُشكِّلون الحقيقةَ الإنسانية القادرة على الاستمرار والدَّيمومة ، ورؤية الأمور من كل الزوايا والجهات ، والتواصل مع الأفكار ، وتوصيل الأفكار إلى الشرائح الاجتماعية المختلفة .
2
ثقافة الأفراد تُشكِّل الظواهرَ الاجتماعية ، وتبني التصوراتِ حول الذات والعَالَم ، لكن الثقافة لَيست قراءة عِدَّة كُتب ، أو المُشاركة في بعض المؤتمرات ، إن مفهوم الثقافة مرتبط بطبيعة الوجود الإنساني في كل تحوُّلاته وتفاصيله النظرية والعملية ، والثقافة فِعلٌ تراكمي وتفاعلٌ رمزي معَ العناصر الاجتماعية القادرة على توليد المعاني الإبداعية ، والأشكالِ الأخلاقية ذات المضمون العميق ، وتنظيمِ الأفعال الفردية بشكل عقلاني ، تمهيدًا لتحويلها إلى منظومة كُلِّية حاملة لإفرازات العقل الجَمْعي، لأن الجُزء لا يَقْدِر على التغيير وحيدًا، ولا بُدَّ مِن وجود منظومة تستوعبه ولا تُلغيه ، وتُوظِّفه لصالح الخَير العام ، ولا تستغله لتحقيق مصالح شخصية . وإذا احتضنت المنظومةُ الاجتماعية كُلَّ عُنصر بلا تهميش ولا إلغاء ، ووضعته في مكانه الصحيح ، كي تتفجَّر طاقته الإبداعية، فإنَّ هذه المنظومة سوفَ تكتمل وتتكامل ، وتُصبح كُتلةً فكرية مُتماسكة مالكة لأمرها وقَرَارها، وقادرة على توظيف تاريخ الفرد لبناء جُغرافيا المجتمع أفقيًّا وعموديًّا ، وتوظيفِ جُغرافيا الوجود الاجتماعي لإعادة تشكيل طبيعة العقل وخصائص الأفراد ، مِن أجل تنقية التاريخ من نقاط الضعف والثغرات القاتلة والأماكن المُظلمة . واستمرارُ عملية التنقية التاريخية يَستلزم بالضَّرورة فَحْص المُسلَّمات التي تجذَّرت بفِعل سُلطة الأمر الواقع ، ولَيس بفِعل منطق العقل . وقواعدُ المنهج الاجتماعي القائمة على الأدلة والبراهين تستطيع إدخال التاريخ والجُغرافيا في صَيرورة وجودية حاسمة ، تُبيِّن تعاقُبَ الأحداث ، وسببَ نُشوئها ، والمسافةَ الفكرية الفاصلة بين زمن حُدوث الفِعل الاجتماعي ومكانه ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى دَمْج التاريخ والجغرافيا معًا وتجسيدهما كحَلْقة وصل بين المعاني الوجودية والوعي الاجتماعي بها .
3
قُوَّة المنهج الاجتماعي لا تنبع من العلاقات الآلِيَّة بين البشر ، الخالية من المشاعر والأحاسيس ، وإنما تنبع من التفاعل الرمزي المتغلغل في العلاقات الاجتماعية ، لأن الرمز قادر على كشف حقيقة الأشياء غَير الملموسة ، وتوضيح ماهية العناصر غَير المحسوسة . وإذا كان الجسدُ الإنساني محصورًا في الزمان والمكان ، فإن الأشواق الروحية عابرة للزمان والمكان ، ولا يُمكن التعامل معها إلا بشكل رمزي ، ولا يَكشف الرموزَ إلا الرموزُ . والتفاعلُ الرمزي الاجتماعي يصنع عَالَمًا مُوازيًا للعَالَم الواقعي الذي نعيش فيه ، تمامًا كما يَصنع الشاعرُ عَالَمه الخاص في قصيدته . وكما أن حرارة التعبير اللغوي قادرة على إزالة الفرق بين الشعر والنثر ، كذلك قُوَّة التفاعل الرمزي قادرة على إزالة الفرق بين التاريخ والجُغرافيا ، لصناعة مجتمع جديد يستطيع صَهْرَ الأضداد ، والتوفيقَ بين التناقضات ، والتخلُّصَ من العُقَد التاريخية والجُغرافية التي تَؤُول إلى عُقَد نَفْسِيَّة ، وتُشكِّل حواجز بين قلوب الناس ، تَمنعهم مِن الاجتماع والتعاون ، وُصولًا إلى المُجتمع المُتماسك المُتجانس، الذي يَخلُو مِن الحِقد والثأر والانتقام .