معن بشور يكتب:

خير الدين حسيب: مدرسة بعناوين عشرة

لم يكن الراحل الكبير الدكتور خير الدين حسيب مجرد مثقف كبير، ومفكر متمّيز، ومناضل عريق، فقط، بل كان مدرسة تتعلم منها الأجيال العربية المتعاقبة دروساً في عدة عناوين جسدها الرجل في حياته.

          أول العناوين كيف تكون معارضاً وطنياً؟

          كان الرجل معارضاً للنظام الحاكم في بلاده، وجرى اعتقاله وتعذيبه في سجون أربعة ، ثم أضطر لمغادرة بلاده العراق الى لبنان منذ 45 عاماً، ليبدأ حياة زاخرة بالعطاء الفكري والقومي على عدة مستويات ، لكن حين تعرضت بلاده الى العدوان منذ عام 1991، والى الحصار لأكثر من عقد من الزمن، ثم للحرب والاحتلال بعد عام 2003، رأى أن الوطن أغلى  من أي اعتبار سياسي، وكان في مقدمة الذين حملوا قضية بلاده على مدى ثلاثين عاماً دون كلل او ملل وكان جوابه في كل مرة يسألونه عن سر موقفه هو:

بلادي وإن جارت عليّ عزيزة

وأهلي وأن ضنوا عليّ كرام

          وكم كان سعيداً ، حين رأى شخصيات الأمة تتوافد الى بغداد في حزيران 2001 لعقد الدورة الثالثة عشرة  من المؤتمر القومي العربي برئاسة رفيقه، ورفيق عبد الناصر، المغفور له بإذن الله ضياء الدين داود ليعلن موقف المؤتمر من الحصار القائم على العراق، ومن الحرب القادمة اليه وليطلق المؤتمر العديد من المبادرات لرفع الحصار ولمنع الحرب .

          كان، رحمه الله ، في الوطنية المترفعة عن كل الحسابات والاحقاد والاعتبارات الزائفة.

العنوان الثاني كيف تكون وحدوياً 

          لم تكن الوحدة العربية عند الدكتور خير الدين حسيب أول أهداف المشروع النهضوي العربي الذي انطلق من مركز دراسات الوحدة العربية في 22 شباط / فبراير 2010 فحسب، بل كان محركاً يومياً لفكره وعمله وسعياً مستمراً لإيجاد الأجواء الملائمة لتحققها دون ان يتوقف كثيرا امام  شكلها الدستوري لأن المهم بالنسبة اليه هو ان تتلاقى أقطار الأمة ، او أي قطرين منها، على طريق التكامل وصولاً  لوحدة اتحادية تتجنب أخطاء “الوحدة الاندماجية” وتحترم خصوصية كل قطر وكل جماعة.

          لذلك كان من أبرز الساعين لتلاقي العراق وسورية على طريق الوحدة، وأجرى اتصالات بأعلى المسؤولين من أجل قيام وحدة بين قطرين تكون أيضاً مفتوحة للأردن ولأي قطر آخر…

          كما كان يسعى الى طرح مشاريع التكامل بين أقطار الأمة على الصعد السياسية والاقتصادية والدفاعية والثقافية والتربوية، وكان يشجع  كل باحث للغوص في هذه المجالات حتى امتلأت إصدارات “المركز” بكتب ومقالات ناهيك عن الندوات في هذا الاتجاه ، ولعل أبرزها دون شك ندوة “الوحدة العربية” التي عقدها في صنعاء عام 1988 بالتعاون مع جامعة صنعاء ورئيسها يومها الدكتور عبد العزيز المقالح (أطال الله في عمره)، وكان أول المرحبين لوحدة اليمن في أيار/ مايو 1990، وأول المنددين بمحاولة الانفصال التي جرت عام 1994، وكان شعاره في اليمن، كما في السودان، كما في أي بلد عربي “الانفصال ليس حلاً”.

العنوان الثالث هو رؤيته المتكاملة لعناصر النهوض العربي

          حين حدد خير الدين حسيب وإخوانه من المفكرين والممارسين العرب الأهداف الستة للمشروع النهضوي العربي وهي : الوحدة العربية، الاستقلال الوطني والقومي، الديمقراطية، التنمية المستقلة، العدالة الاجتماعية ، والتجدد الحضاري، شددوا على تكامل هذه الأهداف ورفضوا أي مقايضة بينها، حيث لا يجوز باسم أي هدف تجاهل أهداف أخرى ، بل أكدوا ان كل خطوة يتم تحقيقها على طريق احد هذه الأهداف انما تقرّب الأمة من تحقيق الأهداف الأخرى.

          لذلك كان يرفض تلك المحاولات التي تضع هذا الهدف النهضوي بوجه الآخر، كما كان يرفض وضع العروبة بوجه الإسلام، او الحداثة بوجه الاصالة، او غير ذلك من الثنائيات المفتعلة للتشويش على مشروع الوحدة والتقدم في الأمة، ولذلك كانت المبادرات التي أطلقها في حياته تصب كلها في خدمة هذا الهدف النهضوي او ذاك، فكان حريصاً على الديمقراطية وحقوق الانسان كحرصه على الوحدة العربية، فمثلما ساهم في تأسيس مركز دراسات الوحدة العربية ساهم في تأسيس المنظمة العربية لحقوق الانسان، وكما ساهم عربياً في الستينات من القرن الماضي لإقامة علاقات وحدوية بين العراق ومصر، ومن ثم في ثمانينات وتسعينات القرن الفائت على علاقات وحدوية بين العراق وسورية  كان حريصاً أيضاً عبر رئاسته  للمؤسسة  الاقتصادية العراقية والبنك المركزي العراقي ان يقف وراء القرارات الاشتراكية في العراق وفي محاربة شركات النفط الأجنبية  لتأميم النفط  في العراق الذي تحول الى واقع في الأول من حزيران/ يونيو 1972.

رابع عناوين مدرسة الدكتور خير الدين حسيب هو الاستقلالية

          فلقد قدم حسيب وإخوانه في “المركز” و”المؤتمر القومي العربي” و “المؤتمر القومي/ الإسلامي” نموذجاً في الحرص على استقلالية العمل الثقافي والقومي  عن الواقع الرسمي العربي ، ورسم في استراتيجية العمل القومي التي تبناها المؤتمر في دورته الرابعة في بيروت عام 1992 مفهوماً للاستقلالية برفض التبعية لأي نظام عربي، كما يرفض سياسة العداء غير المبرر، وذلك عبر الحرص على الموضوعية في المواقف، فينتقد الخطأ حين يقع به المسؤول، ويؤيد الموقف السليم له حين يتخذه ، وطالما شهدت الجلسات التي عقدها منفرداً أو برفقة إخوانه في المؤتمرات والندوات مع هذا الرئيس العربي او ذاك نقاشات صريحة وجريئة كان يحترمه بسببها المسؤول العربي أغلب الأحيان، ويتضايق بعضهم منها أحياناً أخرى.

          خامس العناوين هو حماسته للكتلة التاريخية

          لم يكن شعار “الكتلة التاريخية” الذي حمله الدكتور خير الدين حسيب واخوانه في المؤتمر القومي العربي، مجرد شعار سياسي تفرضه ظروف معيّنة، وتحتمه مواجهات لتحديات ضخمة فحسب، بل كان ناجماً عن مشروع “استشراف مستقبل الوطن العربي” الذي بدأه مركز دراسات الوحدة العربية  في ثمانينات القرن الفائت، وعمل فيه أكثر من خمسين مفكراً وباحثاً من كل أقطار الأمة وتياراتها ليصل الى أن مستقبل الامة العربية مرهون بالقدرة على اطلاق مشروع نهضوي عربي، وان تحقيق هذا المشروع لا يتحقق إلا عبر بناء علاقات صحية وتحالفية بين تيارات الأمة الرئيسة وهي التيار القومي العربي بكل سلالاته، والتيار الإسلامي المستنير، والتيار اليساري العربي، والتيار الليبرالي الوطني، داعياً الى تجاوز كل ما شاب تلك العلاقات بين هذه التيارات، وداخل كل تيار، من توترات وصراعات دفعت الأمة ثمناً غالياً  لها، داعياّ الى الاستفادة من الدروس والعبر التي شهدتها تلك العلاقات..

          لذلك كان خير الدين حسيب وعدد من إخوانه الرواد من مغرب الوطن ومشرقه حريصين على تأسيس المؤتمر القومي العربي عام 1990، والمؤتمر القومي/ الإسلامي عام 1994، والعديد من المؤسسات والمنظمات القومية والجمعيات المتخصصة التي تشكل في  مجملها البنية التحتية للحركة الشعبية العربية والتي شكلت اطاراً للتفاعل بين كل المؤمنين والملتزمين والعاملين في سبيل المشروع النهضوي العربي.

          كان “ أبو طارق “ يقول اذا عجزنا عن فرض “الوحدة العربية” على جدول اعمال الحكومات، فلنسعى الى تحقيقها على مستوى الشعوب، واذا كان هناك من تباين فليكن ردنا بالتكامل بين التيارات، واذا كان من صراع فليكن الرد بالترفع والتجاوز…

          وكم كان مرتاحاً لما أسميته يوما “ بآليات النهوض” في ندوة فاس الكبرى عام 2001 حول “المشروع النهضوي العربي”  حيث قلت “ ان نهضة الأمم لا تتحقق إلا بتحقيق ثلاثية التواصل والتكامل والتراكم..” تماماً كان مؤيداً لرباعية الخلاص التي طرحتها في الدورة الرابعة عشر للمؤتمر القومي العربي في صنعاء عام 2003 بعد الأحتلال الأميركي للعراق حين قلت : المطلوب اليوم “ مقاومة، مراجعة، مصالحة ، مشاركة” ويبدو اننا ما زلنا بحاجة الى هذه الرباعية لنواجه التحدي المفروض علينا.

سادس هذه العناوين التي ارتبط فيها فكر خير الدين حسيب ونضاله كان “فلسطين” التي كان صمود شعبها، وحركة مقاومتها، والمصالحة بين فصائل عملها الوطني، شغله الشاغل، وقد كان من أضخم الندوات التي عقدها “ مركز دراسات الوحدة العربية” بإشراف حسيب هو ندوته عن  الصراع العربي / الصهيوني في تسعينات القرن الماضي حين ظن كثيرون إن قضية فلسطين قد دخلت غياهب النسيان بعد “اتفاقية أوسلو” المشؤومة، فإذ بأكثر من مئة شخصية فلسطينية وعربية فاعلة تعقد في بيروت ندوة ذات أفق استراتيجي حول مستقبل الصراع…

          ولا أنسى انه كيف حرص أبان الانتفاضات الفلسطينية على ان يشارك بكل طاقاته وامكاناته من اجل دعم صمود الشعب الفلسطيني، وأذكر حماسته يومها لعقد مؤتمر وطني للمقاطعة في بيروت.. أبان “ انتفاضة الأقصى” تحت شعار “ وقاطعوا ما استطعتم سبيلاً” فقد كان رحمه الله رجل عمل بالإضافة الى كونه رجل ثقافة وفكر.

          أما سابع العناوين التي اتسم بها فكر خير الدين حسيب واهتماماته وعمله هو “الشباب” مسكوناً بسؤال عن السبل التي تعيد تواصلهم مع الفكر القومي، ولا أنسى حماسته يوم انعقد المؤتمر القومي العربي  الأول  في أواخر آذار/ مارس 1990 في تونس حين طرحت فكرة عقد مخيم سنوي للشباب القومي العربي يواكب انعقاد دورات المؤتمر السنوية التي تعقد في ربيع كل عام ، فيما المخيمات تعقد خلال الصيف وتضم شباباً وشابات من كل أقطار الامة ونحرص على عقدها حيث أمكن في تلك الأقطار، وكان يقول للقيمين على التجربة والمشغولين بتوفير الإمكانات اللازمة لها :” لا تقلقوا سأسعى لتوفير ما تحتاجون” وهكذا كان الأمر منذ المخيم  الأول الذي انعقد في مركز عمر المختار – البقاع الغربي في لبنان بضيافة أحد أركان التجربة القومية الأستاذ عبد الرحيم مراد…

          الحماسة نفسها أبداها خير الدين حسيب ، يوم فكرنا بعقد ندوة فكرية سنوية للشباب عام 2010، لتتكامل مع تجربة المخيمات، وكان حريصاً ان يحضر جلسات “ندوات التواصل الفكري الشبابي العربي” كلها مستمعاً الى الشباب والشابات، باحثاً  عن الإمكانيات الواعدة بينهم، وقد بات بعضهم اليوم متفوقا في العديد من مجالات .

          كما كان اهتمامه بالشباب أيضاً من خلال منشورات المركز التي كان يهديها الى العديد من الأندية والمؤسسات الثقافية على امتداد الوطن العربي لتكون بمتناول الأجيال الجديدة، فقد كان يردد دائماً قولاً للخالد الذكر جمال عبد الناصر “الشباب نصف الحاضر وكل المستقبل”.

العنوان الثامن لمدرسة خير الدين حسيب الحرص على تأكيد العلاقة بين النظرية والممارسة ، بين الفكر والعمل، حريصاً في كل ندوة يعقدها، او حلقة نقاش يديرها، او محاضرة يلقيها، أن يختمها بحديث “ما العمل”، مدركاً ان  “ التنظير دون عمل هو فراغ، والعمل دون فكر هو ضياع “.

          وربما تكون واحدة من إيجابيات الرجل الكبير هي القدرة على الجمع بين الفكر والعمل، ساعياً لأن يسهم في بناء جيل من “المثقفين المبدئيين” الذين تحصنهم مبادؤهم من كل سقوط في مستنقع الانتهازية والوصولية ، او من كل ضعف بسبب الترهيب الفكري والسياسي والأمني الذي تعرفه الكثير من مجتمعاتنا .

          وحين شاركنا في ندوة أقامها المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن والمنتدى القومي العربي في “دار الندوة” تأبيناً للشهيد باسل الاعرج بعد استشهاده بأيام، وقد كان باسل الاعرج احد المشاركين في احدى ندوات التواصل الفكري، أذكر له كلمة قالها لي بعد حديث  الكثيرين عن “المثقف المشتبك” ، كما كان يردد باسل: “ كل مثقف مبدئي هو مثقف مشتبك، لأنه في حال اشتباك دائم مع الحالات التي يرفضها شعبه، سواء كانت احتلالاً او فساداً أو استبداداً... وكان دائما يربط بين احتلال الأرض واحتلال الإرادة مؤكداً ان احتلال الإرادة أخطر على الأمم من احتلال الأرض.

العنوان التاسع لمدرسة الرجل الكبير  هي تكامل وطنيته العراقية مع قوميته العربية، فرغم قوله الذي كان يردده دوماً انه قد نجح في التخلص من أي أثر لعصبية قطرية، إلا إن حبه للعراق، وتفاعله مع معاناة شعبه، كانا كبيرين جداً، فهو كما كثيرين من العراقيين وغير العراقيين، كان يدرك أهمية هذا القطر العربي الهام في حياة العرب والأقليم والعالم، وكان يدرك حجم التآمر عليه ، وكان يدرك كم الأخطاء التي وقع بها الكثيرون من حكام العراق واحزابه ومرجعياته، لذلك كان أكثر المنتفضين حماسة لمواجهة أي  أذى يلحق بالعراق، سواء في الحصار او الحروب او الفتنة الداخلية، وكان يرفض التسليم بوجود صراع مذهبي او عرقي في العراق، مؤكداً ان العراقيين أخوة ، عرباً وتركمان، شيعة وسنة ومسيحيين ويزيديين وصائبة ويعطي  على ذلك أمثلة عديدة من تاريخ العراق القريب والبعيد.

العنوان العاشر لمدرسة حسيب هو ادراكه لأهمية مصر ودورها وموقعها في حياة أمتها، فهو لم يقبل يوماً بمحاسبة مصر أو عزلها بسبب سياسة حاكم او مسؤول، بل كان مدركاً لحقيقة شعب مصر ولمخاطر التحامل على هذا الشعب العظيم. فقد أدرك حسيب منذ الأيام الأولى لاتفاقيات “كمب ديفيد” ان شعب مصر لن يقبل التطبيع، وحرص ان يفتح مركز دراسات الوحدة العربية للعديد من كفاءات مصر وطاقاتها، ممن اصبحوا اليوم من “اعلام الفكر والثقافة في وطننا العربي والعالم. بالإضافة الى أدراكه لأهمية مصر، كان أيضاً مدركاً لأهمية سورية ومتنبها منذ بداية الحرب الكونية عليها ان المقصود في الحرب على سورية ليس النظام او الرئيس  كما يقال فقط، بل ان المستهدف هي سورية كلها، كما الأمر في العراق وفي ليبيا وفي اليمن وغيرهم. لا المقصود هو البلد نفسه والمجتمع وجيشه، وكل مقومات الحياة فيه، ويذكر أصدقاؤه، مما باتوا في الصفوف الأولى للمعارضة السورية، كم نبههم د. حسيب وحذرهم من خطورة الانزلاق في حرب تدمّر بلدهم، كما كان يحذر أصدقاء له في العراق من خطورة الانزلاق الى الاستقواء بالاحتلال الأجنبي للتخلص من النظام في العراق.

          باختصار، خير الدين حسيب كان مدرسة فكرية وسياسية ونضالية لها عناوين عدة، وكم أتمنى ان تجري دراسة  معمقة لتجربة هذا الرجل الفذ على مختلف الصعد، لكي تستفيد منها الأجيال القادمة، ولكي يكون العمل الوطني والقومي والتقدمي عملاً تراكمياً لا انقطاع فيه ولا عوازل تفصل بين الامس واليوم والغد.

  • رئيس المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن في بيروت