لا تعني هذه الخطوة وجود تحول نوعي في السياسة التركية تجاه الإسلام السياسي، كما يقرأ ذلك الأستاذ عبد الرحمن الراشد حين كتب في مقالته المعنونة "هل استسلم أردوغان؟"، وفيها رأى أن "الجانب الأهم لنا في الحقيقة ليس أنه أوقف وسائل الإعلام الإخوانية والتركية الموالية لهم وسيطرد لاحقاً بضع مئات منهم، وسيسلم بعضهم، وسنرى عودة للعلاقات... الأهم من هذا، نريد أن نعرف هل نحن أمام أردوغان جديد؟ هل هو تغيير حقيقي في سياسته؟ لا نفرح كثيراً، الأرجح أنه مستمر كما عرفناه في السنوات العشر الماضية، وسيعاود خوض المعارك السياسية ربما في دروب مختلفة".
بالفعل لن تتحول سياسة أردوغان تجاه الإسلام السياسي، ولن تتراجع طموحاته في المنطقة.. قد يؤجل بعض تحركاته، لكنه سيظل داخل حمأة الصراع الإقليمي، وسيغامر بمصالح تركيا قبل مصالح حلفائه، واليوم تبدو ورقة الإسلام السياسي هي الأكثر نجاعة في إثبات حسن النية مع المصريين، من هنا فإن الإسلام السياسي خاصة فريق الإخوان الأجانب في تركيا باتوا أدوات مستخدَمة يتفاوض بها ويتلاعب بها ويتقارب بها ويمارس الابتزاز بها.
هذه الخطوة توضح فاعلية الإسلام السياسي في المنطقة، وهي تنقض نظرية نهايتهم السياسية أو المفهومية "الدينية" كما تطرح المؤلفة البريطانية أليسون بارغيتر في كتابها "الإخوان المسلمون وحركة النهضة: الانكفاء إلى الظل" إن "قوة الإسلام السياسي، رغم شغل السياسة دوراً محورياً لديه، كمنت على الدوام في أنها قوة اجتماعية ودينية أيضاً، وهو أمر يجعل فعل إزاحته غير سهل... الظروف الأساسية في المنطقة التي تمخض عنها الإسلام السياسي أصلاً لم تتغير بصورة جذرية، ما يترك المجال فسيحاً أمام الإسلام السياسي ليعمل ويتطور. لكن، إذا لم يمُتْ الإسلام السياسي، فهو مع ذلك في أزمة، وقد تعرض في نسخته المتمثلة في الإخوان لضربة قاسية. هنالك عوامل عدة أسهمت في السقوط الكارثي للإخوان، ناقشها مطولاً علماء أكاديميون كُثُر. وثمة إجماع واسع في واقع الحال على أن أخطاء الإخوان ذات صلة بالمجال السياسي أكثر مما هي بالديني، وناتجة بصورة كبيرة من افتقارهم المدقع إلى الخبرة والفهم السياسيين...".
إن التفريق بين النهاية السياسية للإخوان والتراجع على مستوى انتشار المفاهيم الدينية أو التربوية، ليس ضرورياً، لأن أي ضعفٍ في الإخوان يشمل كلا الجانبين، ثم إن المؤلفة تزعم أن الحركة الإخوانية "ليست ثورية" وتستشهد بمجموعة من تصريحات الإخوان بأنهم ليسوا بثوريين وإنما لديهم "التدرج التربوي" في التغيير الاجتماعي، والخلل في تحليلها سببه أخذ نصوص «الإخوان» وتصريحاتهم بوصفها هي التي تعبّر عن "هوية الصراع" بينهم وبين الحكومات وضد مفهوم الدولة بشكلٍ خاص.
لقد أثبتت الأحداث عبر التاريخ أن جماعة الإخوان وإن قالت عن أيديولوجيتها إنها غير ثورية، لكنها في لحظة ما تختار أن تكون كذلك، كما فعلوا في تأسيس التنظيمات الإرهابية في مصر وأشهرها "تنظيم سيد قطب"، وكذلك في الدعم اللوجيستي الذي قدموه لتنظيم القاعدة، وهي حركة راديكالية ثورية دموية.
فعل ذلك إخوان السعودية ونسختهم السرورية في حمايتهم لتنظيم القاعدة، وخلع مشروعية سياسية على التنظيم من خلال ما عُرفت بمبادرة "الدعاة" للوساطة بين القاعدة والحكومة السعودية، والأمثلة كثيرة.
أقول ذلك بغية الانتصار لفكرة أساسية، أن الإسلام السياسي لديه قدرته على البقاء والتلوّن والتحور. نعم نحن اليوم نشهد تراجعات محدودة بسبب الإجراءات الحكومية الضاربة التي اتخذتها مصر، والسعودية والإمارات، وهي دول ثقيلة ولها وزنها في المنطقة وتستطيع التحكم بكفة الميزان في الصراعات الفكرية والسياسية، حين تنتصر لنموذجٍ معين ضد آخر، وحين تحاصر الحركة الإخوانية فإنها تغير كفة الميزان، لذلك فإن ما يمكن اعتباره تراجعاً لا يعني أبداً إمكانية النهاية.
لدى الإخوان "عهودهم المكية" بحيث يتخذون من أسلوب "ما قبل الهجرة النبوية" مبررهم الشرعي لنشر الأفكار والأدبيات، وربما إحياء المنصات التربوية ولكن تحت الأرض، لتكون في حال كر وفر بعيداً عن أجهزة الدولة الأمنية.
إن حضور ورقة الإخوان الأجانب في تركيا بوصفهم ورقة تفاوضٍ بيد أردوغان يعني أن اللعب بالجماعة والاستثمار بها وبالإسلام السياسي ككل سيستمر.
ثمة دول إقليمية صغيرة وكبيرة لا تزال تتقوى بهذه الحناجر والبلاعيم الإخوانية، من أجل صناعة نفوذٍ متوهّم، وتصرف أردوغان غير مفاجئ كلياً لكن توقيته كان أسرع مما هو متوقَّع، حتى وإن لم يلتزم أردوغان بوعده أو لم يكمل حركته المأمولة من الدولة المصرية، غير أن الإخوان الأجانب الزاحفين إلى تركيا أُصيبوا بالهلع.
عدد من الإخوانيين لعبوا بالإخوان واستثمروا بهم منذ حسن الترابي إلى أردوغان. الفكرة باختصار أنهم يعلمون سذاجة هذه الكوادر وحماقتها، حين يظنون أن الدول حين تؤويهم فإنها تقوم بأعمال خيرية لا سياسية.
نعم أردوغان وجّه لهم لكمة، لكنهم سيعودون ويقبلون ذات اليد، التي لُكموا بها.