يوسف الديني يكتب:

أبعد من النووي: مشروع طهران في تمويل الميليشيات

المنطقة على بركان ساخن بسبب الأثمان الباهظة التي يدفعها المجتمع الدولي، والارتباك الأميركي حيال سلوك إيران في المنطقة الذي يتجاوز ملف الاتفاق النووي الذي لا يشكل سوى رأس جبل الجليد في المشروع التوسعي لملالي طهران، وبناء إمبراطورية على أنقاض عواصم عربية، ومحاولة اللعب على وتر المظلومية ومناكفة القوى الغربية.
والمؤسف أن التحركات تجاه إيران عادة ما يعاد تقييمها ليس بسبب التهديدات الكبرى في المنطقة أو تهديد الأمن العالمي عبر أذرعها، ومنها ميليشيا الحوثيين، ولكن مع التحرك الإسرائيلي في المنطقة، وآخره التصعيد البحري ضد إيران لقطع الطريق على إعادة إنتاج اقتصاديات ميليشيا «حزب الله» والميليشيات الشيعية المقاتلة في مناطق التوتر بسوريا.
هدف إيران الأساسي اليوم هو محاولة فك حصار العقوبات الاقتصادية، بصفتها مهمة تتجاوز مسألة الملف النووي التي يمكن أن تماطل فيها طهران أكبر وقت ممكن، بينما فك الحصار يستلزم عمليات تهريب النفط وتأمين أموال ضخمة لـ«الحرس الثوري»، والوكلاء في الخارج من «حزب الله» إلى ميليشيا الحوثي، وإنتاج اقتصاديات الجانحين وعمليات التجارة في الظل، ضمن مسارات غير مشروعة تستهدف مناطق لا يتم التركيز عليها عادة، كأميركا اللاتينية والقارة الأفريقية، بينما تستثمر هذه العوائد في تمويل أسلحة وتقنيات عسكرية لأجنحتها في المنطقة، وتحشيد الأذرع العسكرية خارج حدودها، لتضخيم مشروعها التوسعي الهادف لتقويض سلطة الدولة والاستقرار في المنطقة.

وبحسب تقرير مدير برنامج «راينهارد للاستخبارات ومكافحة الإرهاب» الخبير في الملف الإيراني ماثيو ليفيت، فإن نظام الملالي وضع خططاً طويلة المدى لتمويل الأذرع العسكرية، خصوصاً «حزب الله»، عبر المصارف والشركات العاملة في العراق، وهو الأمر الذي أكدته تقارير كثيرة لوزارة الخزانة الأميركية، ذكرت أن طهران تقوم بعمليات نقل كبرى للنفط، تقدر بمئات ملايين الدولارات، عبر شبكات شحن غير مشروعة، بإشراف مباشر من «فيلق القدس» التابع لـ«الحرس الثوري»، ضمن مخطط كبير قام بوضعه قاسم سليماني الذي كان يرأس عمليات التهريب لتمويل الاقتصاد الموازي للميليشيات.
وما يند عن المقاربة الأميركية والأوروبية في مشروع إيران الذي يتجاوز مسألة السلاح النووي التي تحاول إيران وخصومها حصر الأزمة فيها لأسباب براغماتية تخص كل طرف، أن إيران تمارس لعبة الأقنعة المزدوجة، فتظهر للغرب والولايات المتحدة وجه الدولة التعددية المحافظة ذات الامتداد العريق للحضارة الفارسية، من دون أن تحضر أي مفردة ثورية، من قبل «الشيطان الأكبر» أو «نصرة المظلومين». من هنا، وفي ضوء ازدواجية معايير طهران وهي تمارس ألعابها السياسية باستذكاء في ظل هشاشة الحالة السياسية إجمالاً، يجب أن نعلم أن قناع الثورة هو أداة حشد وتعبئة قادرة على استقطاب المتعاطفين، وتعبئة الشيعة العرب المعتدلين للانتقال من مربع التشيع المذهبي إلى التشيع السياسي، إلا أنه أكثر نجاعة في استقطاب شخصيات خارج مربع المذهب، كما هو الحال الآن في موجات التشيع التي تغزو المغرب العربي، وكلها قائمة على استبطان الوجه الثوري لإيران، وليس معبراً عن قناعات دينية مبنية على تفكير حر وخيارات شخصية. ومن هنا، فالتركيز على السياق الديني في نقد طهران يعطيها المبرر لمظلومية كهذه، والعكس بالعكس؛ تعرية المشروع الانقلابي الإيراني عبر استنبات ميليشيات مسلحة ودولة عميقة داخل الدولة أكثر نجاعة من الدوران في فلك المفاهيم الدينية التي تستخدم بصفتها أداة تعبئة، وليس هدفاً نهائياً.
الأكيد أن مفاوضات الغرب مع إيران الدولة لا تعني توقف نشاط إيران الثورة، فهما وجهان منفصلان عن بعضهما، ويمثل وجه الثورة الجزء الغامض الذي يقبض عليه فيلق «الحرس الثوري» المتحكم في الجيش والبرنامج النووي وجزء كبير من اقتصاد إيران، ووحده هو المؤهل لتنصيب سلطة المرشد الذي لم يعين له نائباً، كما هو الحال مع الخميني، في إشارة إلى إطلاق باب التكهنات حول تغييرات في شكل السلطة وبنيتها.
الإشكالية أن الغرب يرهن مصالحته مع إيران بتقدم المفاوضات في ملفها النووي، وهو عادة ما يتطلب وقتاً أطول بكثير من الآثار المترتبة على التدخل الإيراني في سوريا، وفي اليمن والقرن الأفريقي؛ هذا التدخل الذي يستغل حالة التراخي الغربي طمعاً في تقويض المشروع الإيراني النووي، وليس في كف يدها عن العبث باستقرار المنطقة.
التعويل على استراتيجيات الأمن الداخلي لكل دولة في المنطقة، والتحالفات الصغيرة المبنية على المصالح، بات أهم من التعويل على أي حراك من قبل المجتمع الدولي والقوى الغربية، حيث لا يوجد ما يمكن أن نراهن عليه في إعادة لفت الأنظار مجدداً لخطر مشروع طهران خارج إطار المصالح، وإنما التحديات والمخاطر المحدقة بالمنطقة، التي تشكل تهديداً مباشراً للاستقرار الداخلي، وبالتالي للمصالح الغربية في المنطقة.