حميد طولست يكتب لـ(اليوم الثامن):
نوستالجيا رمضان
من بين التقاليد المغربية الفاسية القديمة ، إخبار ساكنة مدينة فاس بحلول شهر رمضان ، بإطلاق النفار لصوت نفيره من أعلى برج "دار المؤقت" التي تُراقب منها أَهلة الشهور القمرية وتحدد برمجة مواقيت الصلاة ، التي يتولى بعدها المدفع أو"الزواكة" على مدى بقية الشهر المبارك ، مهمة الإخبار بالغروب ، موعد الإفطار وانتهاء الصوم ، الذي ييعل الناس تنفض عن الشوارع التي كانت غارقة في كل ألوان صَخب الحياة ، وكأن الزمنَ قد توقف فيها أو أنها فقدت ملكة الإحتفال ، التي لا تعود إليها إلا بنغمات النفار الأزلية ومقطوعات الغياط البديعة ، وشجو تهـــلــيل المؤذنين من على صوامع مساجد الحي ، الحمراء والبيضاء ولالاغريبة والبلاغمة وسيدي بونافع وجامع الأزهر ومولاي عبدالله ، وغيرها من أضرحة الأولياء المبثوتة في كل أرجاء الحي ، والتي تعطي منها الاشارة لعودة الشارع "الفاس الجديدي" لفرادته في صناعة الفرح الديني المقدس الذي اعتاد رواده إحياءه إلى الفجر.
لن أخفيك أيها القارئ الكريم سرا إذا قلت أن حلول رمضان هذا السنة ، أحيى ما بدواخلي من ذكريات خاصة بتلك اللحظات الجميلة ، التي لم تستطع رياح الزمان أن تطفئ شمعة صورها الضاربة بالجذور في اعماق الذاكرة الجمعية والتى تمدني بالأمل وتؤجج مشاعر الفرح الطفولي الذي تقاسمته ، وأنا طفل صغير، مع أقرانهم من أبناء الحي وبناته ، والذي ماتزال تهتز الأذن لذبذبات هتافاتهم ، ويتراقص الجسد على إيقاع زغاريد احتفال أمهاتهم - نسوة الحي - برؤية الهلال رمضان ، الذي تنشرح الروح لروحانياته ، وتُدغدغ الأنوف بروائح "شهيواته" ونسمات بخوره المنبعثة من شرفات المنازل والسطوح التي تتجمع فوقها المحتفيات بحلوله ، في طقوسية روحانياته مظهرية متميزة ، امرتديات أنفس مالديهن من ملابس تقليدية ، تليق باستقبال هذا الشهر المميز الذي جرت عادة الأسر الفاسية أن تبدأ استعداداتها لقدومه المنتظر ، بإحيائها لـــ"شعبانة" بقسميها ، الكبرى" التي تبتدأ في منتصف شهر شعبان بإعداد ما لذ من الأطباق الخاصة بإفطارات رمضان ، واحياء "شعبانة الصغيرة " التي تقام في الغالب قبل رمضان بيومين أو ثلاثة ، يشتري خلالها الآباء الألعاب لأطفالهم –وعلى رأسها الــ"الحراقية" المفرقعات - التي تفجر على سطوح المباني وفي الشوارع والأزقة للتعبير عن الفرحة العارمة بحلول هذا الشهر العظيم.
كم هو ضخم جدا حنيني للاستمتاع بمثل تلك اللحظات الجميلة التي كانت مفعمة بالشعائر المقدسة وعامرة بالزيارت العائلية ، التي فقدناها للمرة الثانية بسبب ظروف الوباء ، الذي غير رؤيتنا لأولويات الطقوس الرمضانية .
وفي أثناء انتظاري لأيام أفضل ، لا يسعني أمام فضاعة تأثير ذلك في النفوس ، إلا أن أهتف داعيا: اللهم يا عالِم كل خفية، ويا صارف كل بليّة، أدعوك باسمك العظيم أن تفرج عن البشرية ما أمست فيه من هم وحزن ، وما أصبحت عليه من شديد مخاطر هذا الوباء، وأجِرها يا الله من كربه العظيم ، إنك على كل شيء قادر.